الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي - عز الدين العلام


 حول الكتاب

يرصد الدكتور عز الدين العلام في كتابه "الآداب السلطانية" (سلسلة عالم المعرفة) أحد أهم أنواع الفكر السياسي العربي الإسلامي التي راوحت الجغرافيا الإسلامية لقرون عديدة، والتي جاءت ككتابات سياسية تزامن ظهورها الجنيني مع انقلاب "الخلافة إلى ملك" حيث تقوم في أساسها على مبدأ "نصيحة أولي الأمر" في تدبير شؤون سلطتهم معتمدة تصورا براغماتيا للمجال السياسي، مذوبة لكل تعارض محتمل بين الشرع والسلطان، ما يجعل منها فكرا سياسيا لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطاني، وما يجعل الآداب السلطانية ثقافة سياسية مميزة فيما عرفته الرقعة العربية الإسلامية من ثقافات، وعلى وجه الخصوص الثقافة السياسية الفلسفية والثقافة السياسية الشرعية.
حاول علام تحليل الآداب السلطانة من خلال الولوج إلى بنية وثوابت الخطاب السياسي السلطاني التي من خلالها صاغ المفكر السياسي السلطاني تصوراته والتي تقوم أساسا على بعدي الأدب والتاريخ، حيث تتعدد هذه التصنيفات بتعدد المعايير المستخدمة لتحديد المتن السلطاني الذي يتعلق بالزمان والمكان والموضوع والشكل والمؤلف، إذ يمكن الانطلاق من طبيعة المؤلفين أنفسهم الذين ساهموا في الإنتاج السياسي السلطاني كمعيار لتصنيف النصوص والتمييز بينها، فتحدث عن نصوص لفقهاء ولمؤرخين وأدباء وفلاسفة ووزراء كتبوا في مجالات السياسات السلطانية والذين يشكلون في مجملهم دليل عمل يوضح الصفات الخلقية والقواعد السياسية اللازم على صاحب السلطة الاهتداء بها لتحقيق هدف مركزي يتمثل في إدامة الحكم وتقوية دعائمه.
يمكن تقسيم مواد الفهارس السلطانية - بحسب العلام-  إلى ثلاثة أقسام محورية: يتعلق الأول منها بأخلاقيات السلطان، ويشمل الثاني حاشيته بكل مراتبها ومرتباتها، والثالث ما يمكن تسميته بمقومات المُلك، إضافة إلى بعض المتغيرات التي تجعل النص السلطاني مسترسلا ومتنوعا يسمح بالتنقل بين مجالات معرفيه متباينة، تجعله مثقلا بالاستشهادات المختلفة من واقعة تاريخية إلى حكمة أخلاقية، ومن آية قرآنية إلى مقولة فلسفيه، ومن حديث نبوي إلى نصوص مروية، فمهما كانت طبيعة المجال المعرفي الذي ينهل منه المؤلف السلطاني فإن مصيره يكون الانحلال داخل أدبية هذا النص.
يتفق علام مع الكثير من الباحثين على أن الآداب السلطانية التي تمثّل جزءا كبيرا من التأليف العربي الإسلامي منذ أواسط القرن الهجري الثالث تختلف في محتواها وأهدافها تماما عن النوع الذي يعالج موضوع "السياسات الشرعية" إذ يتوارى البعد القانوني والتشريعي ليفسح المجال لنزعة أخلاقية تؤكد على الدين في المبدأ، لكنها تسترشد بالواقع وظروف العصر بالدرجة الأولى، إذ يكاد الطابع الفقهي يختفي منها تماما، ومع ذلك فإن كلمة الشرع والشريعة والأمر الديني تظل حاضرة في اغلب النصوص السلطانية.
ما يمكن ملاحظته عن علاقة الآداب السلطانية بالشرعيات لا يفترق عن علاقتهما بالتاريخيات والأخلاقيات، ذلك أن المؤلف السلطاني يعمل على إخضاعها ضمن تصورات تفقدها خصوصيتها لتصبح أدوات إلى جانب أدوات أخرى تخدم السلطان نفسه، حيث يتجاوز مدلول كلمة الشرع والشريعة المعنى التقني للكلمة لتشمل كل ما هو مفيد للسلطان والرعية كمجموعة من القوانين المتعددة لتنظيم شؤون الدولة، فإذا كان منظرو السياسة الشرعية  يحصرون استشهاداتهم في الدائرة الإسلامية بدءا من الآية والحديث الشريف إلى الإجماع، فإن الأدباء السلطانيين يطرحون هذه الاستشهادات جنبا إلى جنب حسب الموضوع مع مقولة فارسية أو حكمة يوناينة مساوين بذلك بين ما قاله الله ورسوله وما نطق به حكيم يوناني أو ملك فارسي، وإذا كانت السياسة الشرعية تحتل موضوعيين رئيسيين يتعلق الأول منها بالولايات والأموال وما يشمله من إمامة ووزارة وقضاء وحرب...الخ، ويتعلق الثاني بالحدود والحقوق، يلاحظ أن الأديب السلطاني يتحدث عن المجالات نفسها ولكن بطريقته الخاصة، لكنه يقنن الشروط الشرعية داخل سيل من الصفات الخلقية لتحدد مسلكيات الاختيار السلطاني مع تجنب ذكر آراء الفقهاء وخلافاتهم الفقهية.
عند البحث في الإطار المرجعي كثابت من ثوابت البنيوية للنص في تحديده مجال السياسة السلطانية وتعيينه حدود الفكر السياسي السلطاني وتوضيحه للدائرة الابستمولوجية التي يتحرك فيها، يرى علام، أنه يكفي لمعرفة ذلك تصفح مقدمات هؤلاء الأدباء وحواشي المحققين وتعليقات الباحثين لنستنتج ثلاثة ثوابت مرجعية هي: السياسة الفارسة، والحكمة الهلينستية، والتجربة الإسلامية. فيمكن اعتبار انقلاب الخلافة إلى ملك بمنزلة المدخل التاريخي لبروز الأدب السلطاني الذي تبلور بشكل واضح في العهد العباسي حيث كان لا بد للعرب والمسلمين من التأثر بالأنظمة السياسة التي أطيح بها تحت ضربات الفتوحات الإسلامية وكان من أبرزها النظام الفارسي الذي ورثه العرب تلقائيا، فلا يكاد يخلو كتاب سياسي سلطاني من الاستشهاد  "بعهد اردشير" الذي يطرح الأسس العامة التي كانت تقوم عليها العلاقة بين الديني والسياسي في التجربة العربية الإسلامية التي تؤكد ايديولوجية السلطنة الدينية مع حفظ مسافة للدين من التأويل الخاطئ وإبعاد رجال الدين عن أعمال السياسة، أما في المنظومة السياسية اليونانية فلا يرى الكاتب أن هناك بعدا حقيقيا لهذا الأثر في الأدبيات السلطانية؛ لتعارض السياستين أصلا؛ فالسياسة اليونانية تكرس الدولة المدنية، والدولة السلطانية تكريس للمزج بين الديني والسياسي والأخلاقي، والدولة اليونانية تكريس لمفهوم المواطنة، والسلطنة تكرس مفهوم الرعية، ويرى علام أن جميع ما ذكر من ادعاء في أن ثمة توافق بين هاتين الدولتين ما هو إلا نتاج ما أنبتته الشعوبية في العالم الإسلامي في خريف الفكر السياسي اليوناني وبدايات انحدار المدينة اليونانية.
اما فيما يتعلق بالمرجعية الإسلامية، فيرى الدكتور علام أن العلاقة بين الإسلام والآداب السلطانية خضعت في الماضي كما في الحاضر إلى أكثر من تأويل ينفي هذه العلاقة مبرئا الإسلام منها، أو كما يرى محمد عابد الجابري إلى أن الفقهاء لم يكونوا راضين عن هذه الآداب التي تكاثرت وأصبحت تزاحم الشريعة في مجال الحكم والسياسة ما دفع عدد من الفقهاء الإسلاميين إلى التأليف في السياسة الشرعية كابن تيمية - الفقيه الحنبلي- كبديل عن السياسة الملوكية، الأمر الذي أفرز نوعا من التناقض بين الإسلام والآداب السلطانية يستحيل التوفيق بينهما كما يرى الباحث رضوان السيد.
ناقش العلاّم المفاهيم الأساسية للفكر السياسي السلطاني حيث رأى أن السلطان هو المفهوم المركزي الذي تتمحور حوله كل القضايا التي تطرحها الكتابات السلطانية إلى جانب كينونة العلاقة بينه وبين الرعية، وهو ذات ما يراه عابد الجابري من خلال دراسته للايديولوجيا السلطانية أنها مسكونة ببيئة المماثلة بين الإله والحاكم، وهي الخلاصة نفسها التي توصل إليها من قبل علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم " حيث أفرزت هذه المماثلة وهذا التضارب بين مفهومي السياسية الشرعية والسياسية السلطانية فئتين من العلماء: الأولى تحرم العمل مع السلطان كالسيوطي الذي كثف مختلف الآراء الفقهية المعارضة للعمل مع السلطان في كتابه "ما رواه الأساطين في عدم المجيء للسلاطين" والثانية تؤيد العمل مع السلطان رغم كل التنااقضات ويقف على رأسهم السخاوي والفقيه الشوكاني.
في مسألة الرعية، يرى علام أن هناك اتفاقاً شاملاً بين مختلف أدباء السلاطين على اعتبار أن الرعية موضوع لذات السلطان، حيث يجري ذلك في أشكال تعبيرية كثيرة يجري فيها تصوير الرعية كمن لا حول ولا قوة له أمام البطش السلطاني، فيراها ابن قتيبة كجيفة أمام النسر، أو كما يصورها ابن عبد ربه حصاة في سيل جارف، أو كما يراها الثعالبي  كراكب بحر لا يؤمن موجه. فإنّ ما يبدو واضحا في موضوع الرعية سواء تعلق الأمر بأهميتها وصورتها أو تقنيات السلوك السلطاني تجاهها أو في ذكر أقسامها ومالها وما عليها هو الحضور الشامل للسلطان وملازمته الذي يصبغ على الرعية تصوره، ويحدد تقنيات سلوكه تجاهها لدوام ملكه، ويوجز في ذكر حالها عنده 
كما يتبين هذا الاستعمال الحصري للمفهوم من طرف المفكرين السابقين بإضمار تصور خاص للفضاء السياسي يقوم على اعتبار أن الرعية مائلة بطبيعتها إلى الفتنة ومجبولة على الفساد، ما يحتم على راعيها توخي الحيطة والحذر والتسلح بالحزم والشدة ومسلك الترهيب تجاهها، كما يقوم على اعتبارها "منجما جبائيا" يستخلص منه مستحقات السلطان مما يحتم على هذا الأخير الرفق بها والعدل في أحوالها، ويقوم هذا التصور أخيرا على نفيها كذات فاعلة وتقديمها باعتبارها موضوع سلطة، وعليه فإن طاعة السلطان واجبة، والخروج عليه حرام، والخوض في أسبابه مفسدة.
يخلص القارئ على ضوء هذه الدراسة إلى أن كل الوقائع اليوم تشي بضرورة تجاوز هذا النوع من التفكير السياسي التلفيقي القائم على المصلحة الذاتية، نظريا باستيعاب مطلب الحداثة، وعمليا بمسايرة حركة التاريخ  في التسلح "بسلطان الدولة" على مفهوم "دولة السلطان" ومن جمع "الرعايا" إلى مفرد "المواطنة" حيث يتضح أن "الدولة السلطانية" وباسم الدولة الإسلامية كانت لقرون عديدة تكرس لمفاهيم استبدادية، قهرية، عصبية، تعاكس تماما مرتكزات الدولة الإسلامية المعيارية أو الدولة الحديثة القائمة على الأساس العام ومأسسة المجال السياسي والحقوق المدنية والإنسانية.

رابط التحميل



شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق