حول الكتاب
أليس من مفارقات هذا العصر العلمي، عند العرب، ألا تكون لديهم موسوعة فلسفية نقدية حديثة؟ موسوعة موضوعة أو معربة؟ هنا لا نظلم أحداً حين نرى أن نقل معجم لالاند الفلسفي التقني إلى العربية هو، أيضاً، من علائم العصر وتباشيره، فقد نهل من هذا السفر العلمي الكبير، الكثيرون من المشتغلين بالفلسفة، تلميحاً أو تصريحاً. إلا أن نقله بحرفيته إلى العربية ظل أملاً يرتجى. فهذا المعجم الموسوعي الذي بلغ من العمر قرابة المائة عام وأسهم في إنتاجه مئات الفلاسفة والعلماء العاملين، خلايا، في قفير أندريه لالاند، والذي قاربت طبعاته، بالفرنسية، العشرين طبعة، وظهر في طبعة فخمة مجلدة، وفي طبعة شعبية بجزئين، سيكون في متناول القارئ العربي، في ثلاثة مجلدات، محفوظة في غلبة واحدة، وتقارب صفحاته الألفين. واضع المعجم هو الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند (1867-1963) الذي يحمل اسم "الأرض العاقر" غير المنطبق حقاً على حياته الخصبة، الغنية غنى لا يوصف. فقد ولد أندريه لالاند في ديجون، ودرس في عدة مدارس ريفية، إلى أن انتقل إلى مدرسة هنري الرابع، فدار المعلمين العليا ما بين 1883 و1888. نال شهادة التبريز في الفلسفة عام 1888، وشهادة الدكتوراه في الآداب عام 1899. وفي سنة 1909 صار أستاذاً مساعداً في الفلسفة (السوربون)، وأستاذ كرسي عام 1918، ثم أستاذ زائر سنة 1937. يعد أندريه لالاند في أعماله الفلسفية أبرز ممثل للعقلانية الكانطية في ظل الجمهورية الثالثة، في فرنسا ومن موضوعاته الرئيسة التي عالجها: النوايا أو المقاصد الحرية، الحقيقة، ماهية العقل، في وجهية المكون والمتكون، قانون الطبيعة وتمثله، أخلاق العقل، الاستيعاب والاجتماعيات والجماليات. والحال، فما هي قصة لالاند مع هذا المعجم الموسوعي؟ لقد عاش أندريه لالاند فيلسوفاً، مع الفلاسفة وطلابها، ولأجل الفلسفة، فهي عنده مفتاح كل علم، فمن لا يسأل ويتسائل ويندهش، ماذا يمكنه أن يعرف وأن يعلم؟ وحين ظن الكثيرون أن الفلسفة قد هرمت وشاخت، وأن أولادها، العلوم والتقنيات، شارفوا على الانتهاء من أكلها، وقف لالاند في مطلع القرن، تحديداً عام 1901، مؤسساً جمعية فرنسية، تنهض بالفلسفة إلى العصر، فاستغرق عمله مع أعضاء الجمعية ومراسليها نحو ربع قرن، وكانت في أثناء ذلك، تصدراً أجزاء المعجم تباعاً في كراريس فلسفية، تجريبية، يمتحنها الفيلسوف والقارئ والدارس الناقد في آن. ولا بد لنا هنا من التعريف بهذا المعجم الموسوعي الذي تفوق مواده الألفي مادة، المرتبة بالفرنسية، ثم باليونانية واللاتينية (عند توافر المصطلح)، ثم بالألمانية والإنكليزية والإيطالية، على اختلاف المعاني والاستعمالات... ثم أخيراً بالعربية. هذا في مستوى ترويسة المصطلح. أما في مستوى متن المصطلح وهوامشه، ومستوى التعليقات عليه، والتذييلات في آخر المعجم (فضلاً عن تعريب النصوص اللاتينية واليونانية، عن الفرنسية، كما هي في لالاند أصلاً)، فهو مبني أساساً على الفرنسية وفلسفتها، مستفيد بالاقتباس، من شواهد وأمثلة، بنصوص ألمانية وإنكليزية، (أثبتناها في مواضعها وعربناها، باستثناء عناوين الكتب غير المتوافرة بالعربية)، وكذلك بنصوص يونانية ولاتينية، يجد القارئ العربي تعريبها في آخر المعجم، حيث هناك إحالات إلى الصفحة والسطر، في كل مادة معنية. هذا على صعيد بناء المعجم، أما على صعيد مضمونه، فسوف يكتشف القارئ العربي مدى دقة العقول العلمية وتفانيها في استخراج الحقيقة من مصادرها، مما يؤشر، مجدداً على أن الفلسفة هي من نتاج العقول الصابرة حتى آخر رمق، وأن الذين ينفد صيرهم إنما يحرمون أنفسهم من حكمة العقل وفلسفته وعلومه وتقنياته، من هنا تبدأ، إذاً مأثرة هذا العمل الجليل في مؤاده ومحتواه. وثمالة أن ما فيه من تعريفات وأمثلة وشواهد، كانت موضع نقاش وسجال واحتجاج، تمادى بها الزمان، وقد استعرض عمر فلاسفة من عدة أجيال. إلا أنهم فلاسفة مستنيرون، مصممون على العمل معاً بمنهجية ومثابرة، إلى أن نجح هذا المشروع الفريد الذي كرس له أندريه لالاند وصحبه معظم حياتهم، إلى ذلك بذل الفلاسفة جهوداً قصوى حتى تمكنوا من تقديم تحليل جليل للغة الفلسفة، لا سيما في الملاحظ والتعليقات المصاحبة للمنون. والجديد في هذا العمل هو البرهان، بالملموس، على أن التحليل العلمي للغة، ولا سيما لغة الفلسفة، هو من صميم الصنعة الفلسفية، وبذلك توافر للباحث المتفلسف نموذج جديد من عمل مرموق، يستفاد منه في كل حقل، حيث يعبر عن العلم بلغة. وعليه، فإن السجال الدائر حول كل لفظ وممايزاته وتعارض معانيه، يحيلنا إلى تمايزات المذاهب الفلسفية ومسائلها واختباراتها. وهذا السجال يقدم لنا، بدوره أول فحص عيادي، عياني للفكر الفلسفي. إن وظيفة هذا المعجم الموسوعي في الفلسفة، تتحدد بحاجة الدارسين إليه، وبقدرة الفلاسفة على إحيائه جيلاً بعد جيل، شيمة أي عمل لا يستمر إلا بالعمل عليه، أي بالإضافة والتصويب والتحديث مع كل طبعة. إن هذا المعجم يخاطب الطلاب الجامعيين، خصوصاً بتحليله اللغة الفلسفية الذي يشكل جانبه الثابت، كما يخاطب الدارسين والباحثين في الفلسفة وعلومها، من خلال الجانب المتحول أو المتطور، جانب النقد والتعليق والمقارنة والمقابسة. يبقى أن نشير إلى أن الهدف الرئيس من وضع هذا المعجم الموسوعي، المقرر في جلسة الجمعية الفلسفية الفرنسية، يوم 23/5/1901، كان التوفيق بين الفلاسفة -قدر الإمكان- بخصوص ما يعنون بالكلمات، لا سيما كلمات الفلاسفة المحترفين. كما ويهدف للكشف عن الوجود الطبيعي للمطابقات القائمة، بانتظام، بين الكلمات والأشياء، وبما أن لكل كلمة عدة معان واستعمالات، فإنها مع ذلك تملك دوماً، على الأقل، معنى مركزياً، نوعياً، لا تكون المعاني الأخرى سوى وجه من وجوه تطبيقه، تملك معنى مميزاً، يتعين على النقد الفلسفي اكتشافه.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق