حول الكتاب
يفتتح الكاتب الروائي أمين معلوف كتابه «اختلال العالم» بعبارة تلخّص رؤيته لما حصل للعالم، غربه وشرقه، من اختلال فكري وأخلاقي واقتصادي وجيوسياسي، قائلاً «دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة»، منطلقاً في قراءة ما جرى ويجري في العالم، معتبراً أن أوروبا قد تعرف من أين أتت لكنها لم تعد تعرف جيداً وجهة سيرها، والعالم العربي ـ الإسلامي يغوص أكثر فأكثر في بئر تاريخية يبدو عاجزاً عن الصعود منها وهو «حاقد على الأرض كلّها وعلى ذاته بالدرجة الأولى»، والبلدان الأفريقية باستثناء حالات نادرة غارقة في حروب أهلية وأوبئة وتفكك للنسيج الاجتماعي والبطالة والقنوط، وروسيا تعمل على الإبراء من 70 عاماً من الشيوعية ومن الطريقة الفوضوية لخروجها منها، وأميركا بعدما صرعت عدوها العالمي ـ الاتحاد السوفياتي ـ الرئيسي وجدت نفسها تخوض غمار مشروع ينهكها ويدفع بها إلى التيه: «أن تروّض وحدها أو تقريباً وحدها كوكبا يستحيل ترويضه»، والصين «لا تزال تمسك ببوصلة يمكن الوثوق بها تقريباً، إلاّ أنها تقترب بسرعة كبيرة من بقعة لن تعود آلتها هذه ذات نفع».
إن جميع شعوب الأرض ـ بحسب معلوف ـ في مهبّ العاصفة بشكل أو بآخر: «سواء كنا أغنياء أو فقراء، مستكبرين أو خاضعين، محتلين أو تحت الاحتلال، فنحن جميعاً على متن زورق متصدّع، سائرين إلى الغرق معاً، ولكننا مع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر».
القضايا التي تحمل الأسباب والدوافع متداخلة وذات علاقات مشتبكة ومتشابكة، حيث لا يمكن فصل ما يجري في العالم غرباً أو شرقاً. هناك أطماع وعداءات وتخوفات، لذا لم يعالج معلوف قضايا ملفاته بشكل منفصل، إنما برؤية بانورامية، تحلّل ما جرى خلال القرن العشرين وانعكاساته على القرن الحادي والعشرين، فإثر سقوط جدار برلين استشرت الانتماءات وبينها تلك المتعلقة بالدين «بحيث أن التعايش بين مختلف الجماعات البشرية بات يزداد صعوبة يوماً آخر، وأمست الديمقراطية تحت رحم المزايدات حول الهوية على الدوام».
يؤكد معلوف أن هذا الانزلاق من الإيديولوجيا نحو فكر الهوية كانت له عواقب مدمرة للكوكب بمجمله، لكن «هذا الدمار لم يبلغ في أي مكان القدر الذي بلغه في المحيط الثقافي العربي ـ الإسلامي، حيث اكتسبت الأصولية الدينية التي ظلت أقلوية ومضطهدة زماناً طويلاً، أعلوية فكرية جماهيرية داخل معظم المجتمعات، وكما في الشتات، وراحت هذه الحركة تعتمد خلال صعودها نهجاً شديد العداء للغرب».
يحمّل معلوف انهيار المعسكر الشرقي مسؤولية ظهور الحركات الإسلاموية فـ»الإخفاقات المتعاقبة التي منيت بها الأنظمة بالقومية العربية أدت إلى انحدار كامل لقيمة هذه الإيديولوجية، وإلى إعادة مزيد من الصدقية إلى الذين كانوا دائماً يقولون إن فكرة وجود أمة عربية تحديداً هي بدعة مستوردة من الغرب، وإن الأمة الوحيدة الجديرة بهذه التسمية هي الإسلام».
من العالم العربي ـ الإسلامي إلى روسيا والصين والدول الغربية وأميركا، من التاريخ إلى الواقع الحالي يقرأ معلوف الاختلالات من دون انحياز سوى محاولة إطلاق صرخة تحذير بوجه البشرية من الغرق: «ما آخذه على العالم العربي اليوم هو فقره الخلقي، وما آخذه على الغرب هو ميله إلى تحويل وعيه الخلقي إلى أداة للسيطرة».
يطرح معلوف تفسيرين للتاريخ الحديث في إطار علاقة العالمين الغربي والعربي ـ الإسلامي تبلورا حول مفهومين لـ «العدو»، الأول «يرى الإسلام أظهر عجزه عن تبني القيم السكونية التي نادى بها الغرب»، والثاني «يرى البعض الآخر أن الغرب يطمح خاصة إلى سيطرة عالمية يجهد فيها المسلمون في مقاومتها بما بقي لديهم من وسائل محدودة». ويقول: «إذا سلّمنا بمقولة أن بلية عصرنا هي بربرية العالم الإسلامي فلا يمكن لما نشهده في العراق إلاّ أن يعزّز هذا الانطباع. كان هناك طاغية دموي حكم البلاد بواسطة الإرهاب طوال ثلث قرن، وأثخن شعبه بالجروح، وبذر أموال النفط في نفقات عسكرية أو بذخية، وغزا جيرانه، وتحدّى الدول وأكثر من العنتريات وسط تصفيق الإعجاب من جانب الجماهير العربية، قبل أن ينهار من دون قتال حقيقي، وما كاد الرجل يسقط حتى غرقت البلاد في الفوضى، وراحت الطوائف المختلفة تتذابح، كما لو كان يراد القول: انظروا، كان لا بد من حكم ديكتاتوري لضبط شعب كهذا». ويضيف: «وإذا سلمنا على العكس بمقولة وقاحة الغرب يمكن تفسير الحوادث على نحو مماثل من التماسك: كان هناك في البداية حصار أوقع شعباً بأكمله في البؤس، وأودى بحياة مئات الأطفال، من دون أن يحرم الديكتاتور من تدخين سيكاره. ثم كان هناك غزو تقرر تحت ذرائع كاذبة ولم يأبه للرأي العام ولا المؤسسات الدولية، وكان بين دوافعه الطمع بالسيطرة على الثروات النفطية، وما كاد النصر الأميركي يتحقق حتى تقرر التعجيل بشكل اعتباطي في حلّ الجيش العراقي وجهاز الدولة، وأدخلت الطائفية صراحة إلى قلب المؤسسات، كما لو أنهم تعمدوا إغراق البلاد في حالة دائمة من عدم الاستقرار. إلى ذلك أعمال التنكيل في سجن أبو غريب، والتعذيب المنهجي والاهانات المتواصلة والأضرار الناتجة من ذلك، والتجاوزات العديدة التي ظلّت بلا عقاب، وأعمال النهب والفساد الإداري والمالي».
ويوضح معلوف كذلك: «يرى البعض أن حالة العراق تثبت عدم قابلية العالم الإسلامي للديمقراطية، ويرى الآخرون أنها تميط اللثام عن حقيقة وجه نشر الديمقراطية بحسب الطريقة الغربية، حتى في شريط موت صدّام حسين يمكن أن نرى مدى ضراوة الأميركيين والعرب على السواء». ويرى معلوف أن الخطابين صائبان كما أنهما باطلان «فالكل يدور في مداره أمام جمهور لا يسمع الخطاب المضاد».
يؤكد معلوف أن تقديم الديمقراطية الكبيرة الأميركية إلى الشعب العراقي هذه الهدية المسمومة، تكريس الطائفية، هو ببساطة خزي وعار، وإذا كانت فعلت هذا عن جهل فتلك مصيبة وإذا هي فعلته بقصد لئيم فتلك جريمة: «البربرية في الغرب ليس قوامها التشدد والظلامية بل الغطرسة وقسوة القلب، فالجيش الأميركي تدفق على بلاد ما بين النهرين العريقة في القدم كفرس ماء يسرح ويمرح وسط حقل الخزامى وباسم الحرية والديمقراطية راح يهدم ويقتل».
ما ارتكبه الأميركيون في العراق ليس بعيداً في رؤيته عما ارتكبوه في أندونيسيا منتصف القرن العشرين، وإن في سياق مختلف. لكن في رأيي تختلف التوجّهات والأهداف، إذ دبرت مجزرة النخبة الحداثية حين كان يحكم الحزب الشيوعي مع الرئيس القومي أحمد سوكارنو صانع الاستقلال «كانت الولايات المتحدة الأميركية مغتاظة بسبب تأميم المناجم الأندونيسية وبسبب العلاقات التي أقامتها جاكارتا مع بكين وموسكو، وكانت بدأت تغرق في وحول حرب فيتنام، فقررت استعمال الوسائل الكبيرة، وكان نجاحها كاملاً، ففي ختام سيناريو بارع لم يتم الكشف عن تفاصيله إلاّ بعد عقود، اعتبر الشيوعيون والقوميون خارجين على القانون، فاعتقلوا وذبحوا بأعداد كبيرة، في الجامعات والإدارات وأحياء العاصمة وحتى في القرى النائية، تتحدث التقديرات الأكثر جدية عن ستمئة ألف قتيل بين 1965 و1966 وسلّم الحكم إلى الجنرال سوهارتو الذي أقام طوال أكثر من عشرين عاماً ديكتاتورية ظلامية وفاسدة».
يشير معلوف إلى أن المسألتين الغربية والشرقية تعيشان مأساة «وإذا كانت مأساة العرب كونهم فقدوا مكانتهم بين الأمم، وشعورهم بعدم القدرة على استعادته، فإن مأساة الغربيين هي اضطلاعهم بدور عالمي مبالغ فيه باتوا غير قادرين على المضي في ممارسته بشكل كامل، لكنهم عاجزون أيضاً عن التخلي عنه». ويحلل معروف التجربتين التركية ممثلة في الأتاتوركية والمصرية ممثلة في الحقبتين الناصرية والساداتية وانعكاساتهما، في إطار قراءته لمفهوم الشرعية غربياً وعربياً، ليخلص إلى أن غياب الشرعية بالنسبة إلى كل مجتمع بشري شكل من أشكال انعدام الوزن الذي يخلخل كل السلوكيات: «فمتى كانت أي سلطة، أي مؤسسة، أي شخصية، لا تستطيع أن تحوز صدقية معنوية حقيقية، ومتى بلغ حد الاعتقاد أن العالم غابة يسودها الأقوى وكل الضربات فيها مباحة، لا يعود هناك بد من الانجراف نحو العنف القاتل والطغيان والفوضى».
يطالب معلوف العالم اليوم بالخروج من الشرعيات السابقة والعقد النفسية المكتسبة والتي تتبدّى كارثية في ظل الوضع الراهن: «فلنخرج نحو الأعلى لا نحن الأدنى، وليكن ذلك نحو استنباط سلم للقيم جديد يتيح لنا أن نتعامل تعاملاً أفضل مما فعلنا حتى الآن مع تنوعنا وبيئتنا ومواردنا ومعارفنا وأدواتنا وقدراتنا وتوازناتنا ومواردنا وبتعبير آخر، مع حياتنا المشتركة وليس نحو نبذ كل سلم للقيم».
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق