إسلام الساسة - سهام الدبابى الميساوى



 حول الكتاب

اختلط الدين بالسياسة في التاريخ العربي والإسلامي منذ وفاة الرسول واندلاع الصراع على السلطة بين القبائل العربية. استخدمت جميع الأحزاب والفرق السياسية الدين سلاحا في معركتها، وطوّع كل طرف النص الديني من القرآن إلى الأحاديث بما يتوافق وأهدافه. لم تتوقف تلك العلاقة الجدلية التي ربطت الحاكم برجل الدين، فالحاكم ينصّب نفسه حامي الإيمان والدين، فيما تؤمّن له المؤسسة الدينية بمنظّريها وفقهائها التبرير والتشريع الديني لهذه السلطة. يتواصل التاريخ الإسلامي بشكل مدهش في هذه الناحية، فرغم مرور أكثر من ألف وخمسمائة عام على الدعوة الإسلامية، فإنّ طبيعة السلطة والعلاقة بالمؤسّسة الدينية تعرف تشابها قلّ نظيره قياسا على مجتمعات أخرى، فلم تحصل قطيعة في هذا المجال، وما عرفته العصور الأمويّة والعباسية يتكرّر اليوم في الأنظمة الحاكمة في المجتمعات العربية والإسلامية، دون الأخذ في الاعتبار التغيّرات التاريخية، السياسية منها والاجتماعية. يقدم كتاب “إسلام الساسة” لسهام الميساوي، الصادر عن “رابطة العقلانيين العرب” و“دار الطليعة” في بيروت، في إطار سلسلة “الإسلام واحدا ومتعددا” والتي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، يقدم بحثا يتضمّن النظرية أو “الايدولوجيا” التي يستند إليها الحاكم المسلم، كما يتطرّق إلى منتجي ودعاة هذه النظرية من مثقفين وفقهاء، وصولا إلى إبراز مظاهر السلوك العامّ لهذا الحاكم، أي بكلمة أخرى كيفية وضع هذه “النظرية” في ميدان “الممارسة العملية”. وإذا كان الكتاب قد اقتصر على مراحل سابقة في التاريخ العربي والإسلامي، فإنّ ما أتى به يمكن إسقاطه على الزمن الحاضر بشكل كبير.
تقوم “إيديولوجيا” الساسة المسلمين على قواعد ثلاث: تعيين طبيعة السلطة والخلافة، الطاعة، والرأي بالآخر المخالف. بالنسبة للقاعدة الأولى، ينطلق الساسة المسلمون من تمثّل المرحلة الأولى من الدعوة أيّام الرسول الذي كان يجمع القيادة الروحية والسياسية، فيعتبرون أنفسهم مكمّلين لمهمّة الرسول بما يعني استمرارية هذه القيادة بوجهيها، بما يدمج في نظرهم بين السياسة والدين، وبما يلغي لديهم مفهوم الخلافة بوصفها مهمة دنيوية تتصل بإدارة شؤون الناس.
في العودة إلى التاريخ الإسلامي نرى الأمويّين كرسوا مفهوما للخلافة بوصفها “مؤسسة مصونة بحفظ الله ورعايته، وهي وسيلة لإظهار الحق وإقرار العدل وتطبيق الشريعة”. ومن أجل تثبيت هذه النظرة اعتمدوا أحاديث على لسان الرسول لتكريس هذه الوجهة. لم يشذّ العباسيون عن الأمويّين في هذا المجال فاعتبروا “أنّ إرادة الخليفة هي تعبير عن الإرادة الإلهية وتنفيذ لها، وجعلوا ملوكهم سلاطين الله في أرضه يسوسون بتوفيقه وتسديده”.
تحتاج هذه النظرية إلى القبول بها وتكريسها وإسباغ الشرعية عليها، لذا جرت شرعنة الطاعة، التي تشكل القاعدة الثانية، في وصفها السنة التي تحدد فرائض الله وتمنع الاختلاف بين أبناء الملة، بل ذهبوا ابعد من ذلك بالقول إن طاعة الله تمر عبر طاعة الخليفة. على المنوال نفسه، سار الفاطميون أصحاب المذهب الشيعي على غرار ما قال به الخلفاء من المذهب السني، فأكّدوا قدسية الإمامة التي هي ركن أساسيّ من أركان الإسلام تفترض الطاعة الكاملة، فقالوا بأنّ رفض الطاعة هو رفض للإمامة. ومن أجل تثبيت هذا الموقع للطاعة، عمد الفاطميون إلى إبراز فضل الأئمة على البشر و“وجوب طاعتهم والتسليم لهم في جميع الأمور وموالاتهم والخوف منهم وتعظيمهم والسجود لهم تقديسا ومعاداة أعدائهم”.
أما ّالقاعدة “النظرية” الثالثة لإسلام الساسة فهي رفض الآخر المخالف سواء أكانت المخالفة في السياسة أم في الرأي، مما يرتّب موقفا يتّسم بالعداء للآخر المخالف ويشرعن اضطهاده بشتى الوسائل. فالأمويّون الذين نصّبوا أنفسهم دعاة للمذهب السنّيّ وحماة له يرون أنّ دينهم هذا هو الدين الحقّ، وكل ما عداه من الأحزاب والفرق والعلماء المخالفين للسلطة الأمويّة سياسيا قبل أن يكون دينيا هم من المارقين في الدين القابعين في ميدان الكفر والإلحاد، وهو حكم ليس غريبا أن يجد ترجمته في العداء المطلق لهذا المخالف. لم يشذّ العبّاسيون عن أخصامهم الأمويّين في هذه النظرة إلى الآخر المخالف، فمن أجل إثبات شرعيتهم السياسية، كان على العباسيين استحضار صورة بشعة للأمويّين واعتبار الأمويّين غاصبين للسلطة وفاقدين للشرعية الدينية، كما لم يتوانوا عن التشهير الأخلاقيّ بالخلفاء الأمويّين وإبراز مثالب سلوكهم المنافي للدين وقيمه الأخلاقية. وهي اتهامات استند إليها العباسيون في تشريع العنف ضدّ الأمويّين ومن والاهم. أما الفاطميون المستندون إلى الحركة الشيعية الإسماعيلية، فقد اعتبروا المذهب السنّيّ سواء بشقه الأمويّ أم العباسي العدوّ الأوّل لهم، وهو موقف يستند إلى الخلاف الأصليّ حول السلطة بعد الرسول والتي يرى الإسماعيليون أنّ الإمام علي بن أبي طالب كان صاحب الحقّ بها. لذا اتّخذت الدعوة الشيعية أبعادا هادفة إلى تدمير سلطة السنّة بشكل أساس. وعلى غرار العباسيين، اعتمد الإسماعيليون وجهة تشويه أخصامهم دينيا وأخلاقيا.
احتاجت هذه المفاصل “الإيديولوجية” إلى من يزخم أصولها ويرعى مفاهيمها ويتولى الدعوة لها، وهو أمر أدرك الخلفاء والملوك والولاة المسلمون أهميته القصوى في علاقتهم مع “الجمهور” الشعبيّ. وجد الساسة المسلمون في الفقهاء وبعض “المثقفين” ضالتهم، فاستخدموا معهم وسائل الترغيب عبر تقريبهم منهم وبذل العطاء لهم وتكريمهم ورفعهم إلى مواقع اجتماعية عالية. منذ العصر الأمويّ الذي افتتح هذه العلاقة مع الفقهاء، وصولا إلى العصر العباسي الذي عرف تكوّن المؤسسة الفقهية الرسمية، واستتباعا إلى عصور البويهيين والسلاجقة والمرابطين في المغرب والفاطميين..
قامت علاقة جدلية بين الفقهاء والسلطة السياسية للخلفاء والملوك المسلمين، تميزت بتبادل المصالح و“الخدمات”، بحيث يتولى الفقهاء والعلماء الدفاع عن السلطة السياسية واستنباط النصوص الشرعية في تبريرها وإسباغ المشروعية الدينية على قراراتها أمام الجمهور وبما يكسب السلطة السياسية المهابة والقدسية والوجه الحسن. في المقابل تقدّم السلطة السياسية خدماتها للمؤسسة الدينية أفرادا وهيئات ما تتطلبه وظيفتها من الرقابة على الفكر السائد، منعا أو تكفيرا، واستخدام قوى السلطة السياسية في وضع توجهاتها موضع التنفيذ.
هذا إضافة إلى ما تقدمه السلطة السياسية من عطاءات مادية لهذه الفئة من الفقهاء وتحويلها إلى طبقة اجتماعية متميزة عن الجمهور العام. لم تخل هذه العلاقة من تمرّدات قام بها فقهاء ضدّ السلطة السياسية ورفضهم الانصياع لتوجّهاتها ومخالفة المؤسسة الدينية القائمة آنذاك، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة. وقد نالوا، ومن ماثلهم، غضب الخليفة ودفعوا ثمن مواقفهم اضطهادا ماديا جسديا ومعنويا.
يحتاج رجال الساسة المسلمون إلى وضع “نظريتهم” في السلطة موضع الممارسة، فبالإضافة للأدوات الأمنية والأجهزة البوليسية المسلطة على رقاب العباد والعاملة على قمع أيّ حركة آو رأي معارض، يحتاج هذا الحاكم إلى الاستعانة برموز تنتسب إلى الدين بشكل رئيسيّ بما يعطي ممارستها هيبة دنية تضاف إلى سلطته السياسية، بما يذكّر بالسلطة النبوية للرسول والمعبّرة عن الوجود الإلهيّ. تسمّي الكاتبة السلوك اليوميّ والاحتفاليّ للحاكم بـ“مسرحة الدين” بما تتضمّنه من طقوس شكلية يهدف من ورائها إلى تكريس سلطة معنوية ورمزية، فيما يبتعد المضمون كثيرا عن الشكل الذي يسعى الحاكم للظهور فيه. تجدر الإشارة هنا أنّ “المسرحة” في السلوك اليوميّ للحاكم لا تزال سمة عامة لدى جميع الحكام إلى أيّ طائفة انتموا. من هنا يكتسب كتاب “إسلام الساسة” أهميته في الإضاءة على الحقيقي والشكليّ في ممارسة الحكم في الإسلام، ماضيا وحاضرا، وضمن المذاهب السنية والشيعية على السواء.
من الأمثلة الكثيرة التي تحف بها كتب التراث العربي الإسلامي حول سلوك الحكام، أنّ هذا الحاكم يعمد إلى لبس بردة النبيّ عند إجراء مراسم البيعة وتولّيه الحكم، وهو مسلك يرغب من خلاله التمثل بسلطة النبيّ وموقعه الدينيّ. واحتل لقب “المهديّ” موقعا مركزيا في التاريخ الإسلامي السّياسيّ منه والدّينيّ، بحيث يأتي الإصرار على هذا اللقب نظرا لارتباطه بالدلالة على الهداية والإرشاد. وتصل المسرحة لدى الحاكم في المناسبات الدينية والشعبية والوطنية إلى ذروتها، حيث تمثل الأعياد أهم المناسبات لإحياء السنن النبوية وتأكيد الهوية الدينية والثقافية.
في العيد يظهر الحاكم معطاء وكريما على الفقراء والمعوزين، ويصلّي بالناس ويؤدي فريضة الحجّ. وتكتسب صلاة الجمعة موقعا خاصا في سلوك الحاكم حيث تشكل مناسبة للقائه بشعبه والخطبة فيه وإظهار مدى تمسك الحاكم بالورع والإيمان والتقوى.
ومن المظاهر أيضا استخدام كلمة الله وإسباغها على لقبه وعلى الكثير من الرموز المادية لإكسابها هالة وقداسة. وفي مناسبات الحج، يعمد الحاكم على القيام شخصيا بإلباس الكعبة كسوة للدلالة على أن سلطته مستوحاة من هذه الكعبة التي تعتبر رمزا أساسيا في الديانة الإسلامية. ويولي الحاكم أهمية استثنائية للمسجد، فيعمد إلى الإكثار من بناء المساجد ويطلق اسمه أو اسم عائلته عليها، كما يهتم بأثاثه وصيانته. لكن الأهم بالنسبة للحاكم هو استخدام المسجد في السياسة، فيحرص على زيارته الدائمة وإلقاء الخطب بين المصلين فيه، وتعمّد إجراء المراسيم الرسمية داخله. تدخل هذه الطقوس المسرحية في إطار الدمج المتواصل بين السلطتين الزمنية والمادية.
خلافا لادّعاءات فقهاء السلطان القدماء منهم والمحدثين بأنّ سلطتهم إنما هي موظفة في خدمة الدين ورفع شأنه وتكريس موقعه، فالتاريخ العربيّ والإسلاميّ لم يعرف سوى سلطة سياسية استبدادية استعانت بالدين ووظفته في خدمة سلطتها وإسباغ المشروعية عليها. لذا يحتلّ شعار فصل الدين عن الدولة ووضع كلّ واحد في موقعه الحقيقيّ أولوية في أي مشروع إصلاحيّ في المجتمعات العربية والإسلامية يتوخّى إخراج هذه المجتمعات من تخلفها وإقامتها المديدة في الماضي. كما يكتسب شعار إلغاء تحديد دين الدولة التي تسير عليه الأنظمة العربية القائمة لجهة النص الدستوريّ بأنّ دين الدولة هو الإسلام، يكتسب أهمّية من كون الدولة لا دين لها، فوظيفتها رعاية المواطن وتدبير شؤونه، لأنّ المواطنين متعدّدو الانتماءات الطائفية والدينية، فيما الدولة تقوم على سيادة أنظمة وقوانين وضعية تطال جميع المواطنين بشكل متساو وبما يضمن إعطاء الحقوق للجميع دون أي تمييز.

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق