الإعلام : أدوار وإمبراطوريات - هزوان الوز


حول الكتاب

يقول المؤلف: التقيتُ قبل مدةٍ وجيزةٍ بعض الأصدقاء المثقّفين المهتمّين بالشأن الإعلامي، وامتدَّ بنا النقاش إلى بحث ما تشهده الساحة العربية الآن من أحداث متلاحقة، ودور الإعلام في رصد هذه الأحداث، وكذلك الدور التضليلي الذي يلعبه الإعلام الغربي في تشويه الحقائق وقلبها خِدمةً لمخططاته الاستعمارية، وانبرى أحد الأصدقاء موجّهاً حديثه لي قائلاً: هل صحيح أنَّ كل ما يقوله الإعلام الغربي عن العرب تطاولٌ وافتراءٌ، وأنه من إفرازات "صراع الحضارات" الذي يُجاهر به ويدعو إليه ساسة الغرب ومفكّروه، وأنَّ الحملات الإعلامية المتعاقبة التي لايكاد ينجو منها بلد عربي، ليست إلا وجهاً من وجوه حرب الإساءة والتشويه التي اعتمدتها إسرائيل سلاحاً ماضياً في صراعها معنا منذ عقود عديدة؟. وهل نحن حقاً مظلومون فيما يُقال فينا وعنا ؟ وكيف السبيل لدرء هذا الأذى، ودفع هذه الشرور؟؟ وقبل أنْ أجيب، قال صديقٌ آخر: وهل تعتقد أننا سنستطيع مواجهة هذه الحملات، وهذه الافتراءات، أو بكلمةٍ أخرى هل يستطيع إعلامنا مواجهة الإعلام الغربي بكل أدواته وطاقاته، وإمكانياته غير المحدودة؟

توقفتُ لحظات قبل أنْ أجيب عن تساؤلات هذين الصديقين، فكثيراً ما تتحوّل هذه التساؤلات إلى حوارات ساخنة في مجالس النُخبة العربية، تختلف حولها الآراء إلى حدّ الانفعال دون أنْ ينتهي بها الحوار إلى قناعات تُبنى عليها مواقف من التصدّي العقلاني الجاد للتعامل مع هذه الظواهر المثيرة للغضب.

فهناك من يرى أنَّ في الإعلام الغربي، حقاً، بعض التحامل علينا، لكنه أيضاً لا يختلق الأباطيل، ونحن نغضب عندما يقوم بكشف حقيقتنا وتعرية عيوبنا، ونظراً لتعود العرب إعلاماً رسمياً أثارت حفيظتهم الصراحة والجرأة التي يعالج بها الإعلام الغربي شؤوننا، وأدت إلى ردود فعلٍ لا قبل لهم بها استهوت أوساط العامة قبل المثقفين

وهناك من يرى في الإعلام الغربي طرفاً كارهاً مسكوناً بحقده علينا، يُغمض عينيه عن كل ما هو إيجابي لدينا، يُلاحق الصغيرة في حياتنا ليضخّمها، ويبلغ في تضخيمها حدّ التهويل والتضليل الصارخ عبر ما يروجه من أكاذيب شائنة وادعاءات معيبة إمعاناً في كرهه وتحامله علينا. فهو إعلام لا يُعنى بالاستقصاء الموضوعي المحايد، يفتقر إلى التحليل، ويكتفي بالنظرة السطحية للأمور، ولاسيما فيما يتصل بالجانب الاجتماعي من حياتنا، ليأتي عملاً مشوهاً مبتوراً، يدفع به إلى قارئيه متعمداً بذلك إلحاق الأذى بنا. فهو في مواقفه السياسية وفي الكثير من حالاته ترديد وترويج لإيدولوجيات غربية استعمارية يراد منها تشويه قضايانا.

منذ زمن استطاع الإعلام الغربي بصحافته وفضائياته أنْ يلفت نظر المشاهد العربي، وأنْ يستحوذ على اهتماماته، فالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ومناصرة الشعوب المضطهدة وسواها من الشعارات الملغومة التي كانت مجرد وسيلة تضمر غاية خبيثة، تجاوزها لاحقاً إلى ما هو أبعد من ذلك، وبهذا الكم الهائل المصحوب لوسائله التكنولوجية الإعلامية الحديثة امتلك الغرب كافة وسائل التأثير في الجماهير العربية التي انبهرت بالكثير من الأطروحات الفكرية والسياسية الدسيسة المستبطنة لنيات الغرب السيئة بعد أن أسفر هذا الغرب عن وجهه الكالح للكيل بمكيالين، وليس بخافٍ على أحد أن الإعلام العربي المقروء والمسموع شارك عن علمٍ أو جهالة في تسويق الأجندات والتصريحات الغربية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، من خلال ما تبثه بعض الفضائيات العربية، وكأنه الزهو العربي بالديمقراطية والحرية الغربية المؤدلجة على الرغم من ممارسه الغرب أبشع وسائل الظلم والعنصرية البغيضة داخل مجتمعاته.

فالإعلام الغربي بكل عناصره وعنصرية ساسته يدورون في فلك واحد وهو امتلاك الفضاء العربي بأسهل الطرق وبأقل التكاليف من خلال محطات فضائية تشتعل بالفتن لتحقيق هدفه في فتح طريق شرق أوسط جديد يخدم مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني.

وقد رويتُ لأصدقائي (مستشهداً بدور الإعلام الغربي والصهيوني التضليلي) ملخص مقالة لأحد الزملاء الكتاب العرب الذي سافر إلى بلد أوروبي، فسأله أحد الأشخاص في ذلك البلد، بعدما عرف الوجهة التي أتى منها: إنَّ بلادكم تعد أكبر مصدر للحشيش والإرهاب معاً!!

على الرغم من اندهاش زميلنا الشديد مما سمعه، وثورة أعصابه من كلام الرجل وتجنيه بمثل هذه الصورة.. . فقد استطاع التحكّم في أعصابه وتركه يُكمِل حديثه المثير للغضب، وهو يصف كيف نعمل على إفساد شباب العالم بالمخدّرات، وكيف نُساهم في تدمير المنشآت، وترويع الآمنين بأصوات القنابل، وكيف نؤوي الإرهابيين، ونُصدّر الإرهاب إلى دول العالم من حولنا، وكيف.. وكيف!! ولم تهدأ ثورة زميلنا الكاتب العارمة، وتبرد أعصابه، إلاّ بعدما سمع هذا الرجل الأوروبي يُردّد جملة: إنّكم في (أفغانستان) تذبحون الناس وتعلقونهم في أعمدة الشوارع، وتمنعون النساء من الخروج إلى الأماكن العامة ما لم يضعن جلابيبهن على وجوههن ورؤوسهن على نحو مبالغ فيه، وتقيمون مزارع الحشيش. . و.. و.. يُضيف زميلنا مندهشاً: (عندئذٍ تأكدت أنَّ الرجل الذي يناقشني لا يفقه شيئاً في علم الجغرافيا، ولا يستطيع أنْ يُفرّق بين الشعوب.. وأنَّ سلاحه الوحيد، ودافعه هما التعصّب لإسرائيل، وأنَّ هذه الثقافة الضحلة اكتسبها من أسطوانة الإعلام الصهيوني والغربي التي تدور على نحو مستمر مرددة على مسامع العالم، كم هي مظلومة!!).

يتابع صديقنا الكاتب قائلاً: كدتُ أنْ أجيبه عن بعض تساؤلاته الغبية، وأوضّح له أنَّ الحرب على المخدرات في بلادنا لا توازيها حرب أخرى في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك لا نعاني من ويلاتها مثلما تعاني بلاده، ولكنني اكتفيت بسؤالٍ واحدٍ وجهته إلى محدثي المنفعل اعتقدت أنه كافٍ، فقلتُ: هل سبق في حياتك أن اطلعت على خريطة العالم؟

ولأنه شعر بأنَّ في سؤالي هذا نوعاً من التهكّم، رد بسرعة: نعم.. وأعرف بلادكم، كما أعرف الدولار!! فأنتم في الشرق الأوسط ليس لديكم سوى مستودعات المخدرات، وثلة من أصحاب أدمغة التخريب!

فقلت إنك في معرض حديثك السابق ذكرت (أفغانستان) فهل تستطيع أنْ تُحدّد لي موقع هذا البلد الذي جعلتني من سكانه؟

قال الرجل: إنه هناك في مكان ما!! عندها أدركتُ أنَّ الخطأ ليس خطأ هذا الرجل، وأنَّ القصور الذي يُعاني منه مرده ضعف الإعلام العربي في مواجهة الآلة الإعلامية الغربية التي يقودها الصهاينة وتقود بدورها الرأي العام العالمي، فهي التي (غسلت) دماغ هذا المسكين، وصوّرت له الشرق الأوسط بأكمله على أنه مستودع مخدرات، وآلة تصدير للقلاقل والفتن التي تجتاح الكرة الأرضية.

 إن الإعلام العربي لم يستطع عبر تاريخه الطويل مجاراة غيره، وبقي عاجزاً عن تغيير المفهوم الغربي عن العالم العربي بصورةٍ خاصة، والإسلامي بصورة عامة،ولو كان التغيير قليلا حتى أضحى الإرهاب في نظر الغرب مرتبطاً بالإسلام وبصورة الإنسان العربي.

ولم يكلف الإعلام العربي نفسه عناء التصدي للدعاية الصهيونية في الغرب، في الوقت الذي استطاع فيه الإعلام الغربي إقناع الرأي العام هناك بأنَّ العالم العربي مليء بالتعصب والعنف والعدوانية وفوق هذا مناهض للسامية، وأنَّ إسرائيل هي الحليف الغربي الوحيد في الشرق الأوسط، ولذلك غنمت الدولة العبرية مئات المليارات من جيب دافع الضرائب الغربي، وبالذات الأمريكي، الذي أعماه إعلامه عن السؤال البديهي: لماذا أدفع من جيبي قوت دولة أخرى بيني وبينها آلاف الكيلومترات؟

في حين بقي الفلسطينيون يُضطهدون من جانب إسرائيل دون أن يُرفع صوت واحد في الغرب لنصرتهم. وكما نعلم فالإعلام الغربي استطاع أن يصور الفلسطيني للعالم الغربي على أنه عدواني ،وغريب ،ومتصلّب، وإرهابي، متسبّب في تعطيل عملية السلام.

إننا إذن أمام قضية لا يُمكن تجاهلها. فالإعلام الغربي حقيقة مؤلمة في حياتنا السياسية والثقافية، ولن تنفع محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الإساءة إلينا.. فهو يُغطّي القارات الخمس بلا منازع ممتلكاً بذلك القدرة على غرس ما يشاء من الصور في أذهان الشعوب وتوجيه مواقفهم كما يريد،غير مكترث فيما يتناوله من أحداث العالم إلا بما يراه معبراً عن قناعاته ومنسجماً مع مصالحه.

وإذا كان الإعلام الغربي، سابقاً، ضئيل الفاعلية في تأثيره فينا وفي قضايانا، فإنَّ ثورة الاتصالات قد جعلت منه اليوم وسيلة تفوق بقدرتها قدرة الجيوش.

والسؤال الذي يطرح نفسه، ما العمل كي يواجه العرب الإعلام الغربي مواجهة عقلانية تضمن لهم تصويب الأفكار المسبقة والصورة المشوهة عنهم بعيداً عن ردود الفعل والانقسام في مواقفهم؟ أعتقد أنَّ سبيلنا إلى ذلك أمران: تحصين الجبهة الداخلية للصف العربي وتوحيده وإصلاح مكامن العجز فيه، والحوار المتواصل الهادئ مع الإعلام الغربي على اختلاف مشاربه.

فقد رأينا كيف تعمد الدول الكبرى إلى الاستعانة بالإعلام وهي تعدُّ لعملٍ سياسي ضخم من أجل تهيئة الرأي العام الداخلي والخارجي لقبول ذلك العمل وتأييده، كما حصل في أفغانستان والعراق. ولن يفيدنا في شيء أنْ ندافع بالقول: إّنها حملات مغرضة، بل علينا أنْ نرصد باهتمام مواقف وسائل الإعلام، ونفتح معها حواراً صبوراً طويل النفس، هادئاً، نبدؤه بالخصوم قبل الأصدقاء ونُتيح لها مداخل الاطلاع على ما تريد حتى لا يدفع بها انغلاقنا إلى تصورات واهمة واجتهادات غلط أو شائعات يروج لها..

يقول الباحث «جميل حجيلان»: لقد انتهت بي أربعون سنة من العمل الإعلامي والدبلوماسي إلى قناعة كوّنتها تجارب السنين وهي أن الحوار ينفع ولا يضر، وأنَّ مكاسبه أكثر من إحباطاته، وأنَّ الإنسان لا يولد كارهاً إنساناً آخر، وأنَّ مواقف الإنسان، أيّ إنسان، من الأحداث والناس تُحدّدها مصادر المعرفة التي يتلقّاها، ولاسيما من إعلامٍ قوي النفوذ، طويل الذراع، دائم الحضور، سريع التأثير كالإعلام الغربي في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. ولن يُحقّق الحوار مقاصده إلا إذا احترمنا ذكاء الآخرين، واعترفنا بقدرتهم على فهم الحقائق في عالمٍ لم يعد يجدي فيه الاختباء أو الهروب.

لقد جاء القرن الحادي والعشرون حاملاً معه عصراً جديداً، أصبح للإعلام فيه الكلمة الأولى في ظل ثورة الاتصال والمعلومات، تلك الثورة التي لن تتوقف مع استمرار عملية الابتكار والتغيير. ولقد أدّت هذه الثورة إلى إحداث تطور ضخم في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وجعلت السماء مفتوحةً تسبح فيها الأقمار الصناعية لتمتد رسالة الإعلام عبرها الى أرجاء المعمورة، وليصبح العالم قرية كونيةً إلكترونيةً صغيرة. والواقع أنَّ الإعلام في العصر الحديث أصبح جزءاً من حياة الناس، كما أنَّ بناء الدولة اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، بات يتطلّب الاستعانة بمختلف وسائط الإعلام ووسائلها.

وترتبط السياسة الإعلامية بالأوضاع السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، وحتى العسكرية، بمعنى أنَّ الإعلام يرتبط بقوى الدولة الشاملة، ومن ثم فهو يسعى بطريقٍ غير مباشرٍ لتحقيق أمن المجتمع بمنظّماته ومؤسّساته وأفراده، من خلال التغطية الإعلامية ومن خلال الإسهام في بناء المواطن، وتحصينه ضد أي غزو إعلامي أو فكري معاد.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق