حول الكتاب
ثمة كتب محظوظة، لعلها تستمد حظها وحظوتها من منشئها، واعني بالكتب المحظوظة، أنك ما أن تقتنيها وتحصل عليها، حتى تباشر قراءتها، في حين تظل كتب، ترنو اليك باستعطاف، سائلة عن وقت قراءتها ومتى يحين؟ قلت إن الكتب المحظوظة، تستمد حظها وحظوتها من كاتبها والموضوع الحيوي الذي كتب فيه، من هذه الكتب المحظوظة كتاب يوتوبيا جدل العدالة والمدينة الفاضلة من إفلاطون الى إبن خلدون للباحث الاكاديمي الدكتور طه جزاع، والصادر عام 2011 عن شركة الانس للطباعة والنشر ببغداد، والكتاب هذا سياحة فكرية سياسية وفلسفية، في إيجاد المدينة الفاضلة والبحث عنها منذ ان كتب إفلاطون محاوراته الجمهورية ، وماتركه من أصداء في الفلاسفة المسلمين، في دعوتهم لبناء المجتمع المثالي، وتأكيدهم الاسس الخلقية التي يجب أن يبنى عليها المجتمع، فهناك بون شاسع بين عوالم السياسة الباحثة عن فن الممكن، ومفاهيم الاخلاق المنادية بما يجب أن يكون، وفرق كبير بين الممكن وما يجب أن يكون، اذ يقدم الكتاب إستقصاءً شاملاً لآراء المشتغلين بحقل الفلسفة الاسلامية، في بناء المدن الفاضلة، في مواجهة المدن الفاسقة والراذلة بدءاً بأبي نصر الفارابي 257 ــ 339هـ اكثر فلاسفة الاسلام إهتماماً بالسياسة، ومخلفاً لنا العديد من المؤلفات الباحثة في هذا الشأن، ومن أشهرها كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة وشروطه في رئيس المدينة هذه، في أن يكون فيلسوفاً وقوة الادراك فيه تامة، وهو على أستعداد لتقبل المعقولات التي تفيض عليه من العقل الفعال، حتى يصير عقلاً مُنقاداً يدرك كل المجردات، وان يكون تام الاعضاء، قويها، جيد الفهم، وجيد الحفظ لما يراه ويسمعه واهم شيء لديه ان لايكون شرهاً في الاكل والشرب والنكاح لان الاكثار من الاكل يميت العقل، واقفاً عن أبن سينا 370ــ428 هـ الذي لم يُعطِ السياسة الاهتمام الذي تستحقه، على الرغم من حياته الحافلة بالحوادث، لاتصاله بالحكام والسلاطين وتقلده الوزارة. وان إبن سينا ــ كما يقول الباحث الدكتور طه جزاع ــ يكاد يكون اكثر الفلاسفة العرب المسلمين بعداً عن التأثر بالانموذج الاغريقي للمدن الفاضلة، واقربهم الى انموذج المدينة العربية الاسلامية النبوية الفاضلة، وقد اضفى نقده للواقع المضطرب في عصره، على فكره السياسي طابعه الفاعل والأيجابي وأبعده عن الوقوع في مأزق الطوباوية الافلاطونية او الفارابية ــ تراجع ص88
ولاينسى الباحث الدكتور طه جزاع إخوان الصفا، على الرغم من آرائهم السياسية المتفرقة، والمتناثرة في صفحات رسائلهم، التي ينقصها التنظيم والوضوح والدقة، وذلك بسبب اللغة الرمزية التي كتبوا بها رسائلهم، ولعل هذا ناتج من خوفهم من البوح بمكنونات عقيدتهم السياسية، خوف بطش الحاكم، وسيّافه ومادمنا بصدد الحديث عن أخوان الصفا، بودي ان أشير الى كتاب مهم ألفه عنهم الباحث الرصين عمر الدسوقي، الاستاذ بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الاول القاهرة فيما بعد والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية، وهو من مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية، التي كان يشرف على إصدارها الدكتور منصور فهمي باشا رئيس الجمعية والدكتور علي عبد الواحد وافي وكيلها. الكتاب لايحمل تأريخ إصداره، بل هناك مقدمة كتبها الباحث العملاق عمر الدسوقي مؤرخة في جمادى الآخرة» 1366هـ إبريل» نيسان سنة 1947، وهو من مقتنيات المرحوم أبي، وبودي أن اشير الى رأي الدسوقي عمر في رمزية رسائل إخوان الصفا، الذي يأتي مصداقاً لرأي الباحث الدكتور طه جزاع، قال الدسوقي ولم أجد بُداً من قراءة الرسائل اكثر من مرة، استشف مابين سطورها وانقب فيها عما أخفوه من آراء، ومارمزوا إليه من امور هامة تبين مقصدهم وهدفهم من تأسيس جماعتهم، فالرسائل كانت أعظم مرجع لجأتُ إليه في هذا البحث الذي أقدمه بين يدي قراء العربية، وقد ايدتُ الاحكام التي وصلت إليها بالنصوص وحاولت جهدي أن اثبت النصوص بدون تغيير فيها، لعل القارئ يستعين بها على فهم مالم استطع إدراكه منها ص5 من الكتاب آنف الذكر.
ثم يعرّج بنا الباحث طه جزاع على أبي الحسن العامري 300 ــ 381 هـ الذي يعد أشهر فلاسفة مدرسة بغداد، التي اشتهريت في القرن الرابع الهجري، وللباحث الدكتور عبد الستار عز الدين الراوي زميلنا في الدراسة المتوسطة، بمتوسطة فيصل الرسمية بالكرخ سنة 1958 ــ 1959، بحث رصين عن فلاسفة مدرسة بغداد، نشر كتاباً، وتنقسم المدن عند العامري الى مدن فاضلة، يعرفها بأن الفعل فيها يكون لأهل الفلسفة.
ومدن خسيسة وهي التي تسود أهلها الرغبة في اللذات والاستمتاع بها، ومدن حكيمة وهي التي يكون هم أهلها الحصول على الحكمة، ومدن جاهلة هي التي لايعرف اهلها شيئاً من العلوم والفضائل.
حينما قررتُ كتابة حديثي هذا عن كتاب يوتوبيا للدكتور طه جزاع، عدت الى قراءة كتاب على ضفاف الفلسفة للدكتور حسين الهنداوي الصادرة طبعته الاولى عن بيت الحكمة ببغداد سنة 2005الذي قرأت الكثير من دراساته الفلسفية القيمة في جريدة الزمان الطبعة الدولية»لندن، وكذلك الى الكتاب المهم، الذي أفرزه عقل الباحث الفلسفي الرصين، الاستاذ الدكتور ناجي التكريتي الموسوم بـ الفلسفة السياسية عند ابن أبي الربيع. مع تحقيق كتابه سلوك المالك في تدبير الممالك الصادرة طبعته الثالثة المنقحة والمزيدة سنة 1987 عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وطبعته الاولى عن دار عويدات ببيروت سنة 1978، إبن أبي الربيع هذا وكتابه سلوك المالك في تدبير الممالك ، خصّه الباحث الاكاديمي الاستاذ الدكتور طه جزاع بمبحث من مباحث كتابه موضوع حديثنا هذا، والذي اكد إبن أبي الربيع فكرة مهمة تدعو الى وحدة المدينة، وعدم إفسادها بكثرة الرؤساء، وهذا مايؤكد توصلات الباحث ناجي التكريتي من أن إبن أبي الربيع عاش في زمن المستعصم بالله العباسي آخر خلفاء الدولة العباسية المقتول سنة 656 هـ ــ 1258م، لا المعتصم ت 227 هـ إذ وصلت الدولة العباسية الى أرذل عمرها وضربتها الفتن والاضطرابات، وكثرة الحكام والامارات والولايات، في حين كانت الدولة قوية أيام المعتصم، وليست هناك إمارات، وليست هناك ممالك منفصلة عن جسد الدولة العباسية، كي يكتب إبن أبي الربيع كتابه هذا الذي يُعلمُ فيه المالك كيفية تمشية أمور الممالك وتدبيرها ولان الباحث طه جزاع يريد لكتابه هذا أن يكون وافياً بالغرض الذي من أجله رجع الى عشرات لابل مئات المصادر والمراجع، مع أنه يعترف شأنه شأن الباحثين المحترمين لذواتهم وقرائهم، وانه لايدعي تقديم صورة تفصيلية كاملة عن هذا الموضوع، فهناك بكل تأكيد العديد من النواقص والهنات التي لم ننجُ منها، وهذا هو شأن اي عمل ينجزه الانسان العاجز على الدوام عن بلوغ الكمال، أقول ما اكتفى الدكتور طه جزاع بدراسة فلاسفة المشرق العربي، بل ثناهُ بدراسة الجناح الثاني من وطن العرب، المغرب العربي، دارساً جهودَ إبن باجة ت533 هـ وكتابه تدبير المتوحد واقفاً طويلاً عند مفردة التدبير الذي يعني سياسة الدولة وقيادتها، مُثنياً بأبن طُفيْل ت581 هـ وقصته حي بن يقظان، ومُثلثاً بابن رشد 520 ــ 594هـ .
وأخيراً يدرس التأثيرات الافلاطونية في قضية الحاكم والدولة الفاضلة في الفقه السياسي الاسلامي، بعد أن درسه لدى فلاسفة الاسلام، آخذاً عينة منهم ممثلة بالباقلاني ت403 هـ الفقيه الاشعري واللغوي النحوي والماوردي 364 ــ 450هـ وكتابه الاشهر الاحكام السلطانية وأبي حامد الغزالي 450ــ505هـ وكتابه المهم إحياء علوم الدين الذي أصاب كبد الحقيقة في قوله ففي جِبِّلة الانسان الغيظ والحسد والمنافسة وذلك مما يؤدي الى التقاتل والتنافر، فأنظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمرهم بالقوة والعدة والاسباب، والقى رعبهم في قلوب الرعية حتى اذعنوا له طوعاً وكرهاً وفي القسم الثاني من النص يظهر الغزالي فقيهاً سلطوياً مسبحاً بحمد الحاكم الذي يلقي الرعب في قلوب الرعية
وابن خلدون 732 ــ 808 هـ وكتابه المقدمة ابن خلدون الذي أظل اعاتبه كيف اراق كرامته في حضرة الغازي المحتل لدمشق تيمورلنك الاعرج، ولنك بلغة المغول تعني الأعرج واخيراً ابن الازرق 832 ــ 896هـ وكتابه بدائع السلك في طبائع الملك وهو الكتاب الوحيد لابن الازرق في علم السياسة. ولله در الامام علي بن ابي طالب،عليه السلام ورضي الله عنه وكرم الله وجهه الكريم القائل أمران جليلان لايصلح أحدها إلا بالتفرد، ولايصلح الاخر إلا بالمشاركة، وهما المُلك والرأي، فكما لايستقيم المُلك بالمشاركة، لايستقيم الرأي بالتفرد .
كما ان نفسي تنازعني في ان أثبت تعليقة الباحث الفلسفي الاستاذ مدني صالح الذي خسره الدرس الفلسفي الرصين في العراق خلال شهر تموز من عام 2007، على مُسوّدة الكتاب السياسة من عالم الممكن النسبي.. الاخلاق من عالم المبدأ.. ما الذي يحدث اذا صارت السياسة من عالم المبدأ.. والاخلاق من عالم الممكن؟ تصير السياسة من عالم الحلم السعيد بالمدينة الفاضلة، والحلم الفاضل بالمدينة السعيدة، ويزدهر بنا المستقبل، ويندحر الفيلسوف الملك، والملك الفيلسوف، صورة لاندحار إفلاطون .
وقفة نحوية ولغوية سريعة ففي الصفحة 106 وردت عبارة وإنه فيه أمراً خارجاً وحقها الرفع أمر خارج وفي الصفحة 110 وردت عبارة وكان له حضوراً واضحاً ومؤثراً وحق الجملة الرفع حضور واضح ومؤثر، وفي الصفحة ذاتها وردت عبارة دللت وصحتها دلت.
على الصفحة 111 وردت عبارة تداولت في قصته حي بن يقظان مجموعة مصطلحات سياسية… والاصح تدوولت، كذلك ص131 تدلل والافصح تدل ص132 تتلائم وصحتها تتلاءَم ص136 حيث ينزع الاثنين نزعة واقعية، وصحتها الاثنان. وبعد ما امتعتني حقاً في هذا الكتاب الجميل، سلاسة العبارة، ورقة المفردة ودقتها، التي خففت كثيراً من وعورة هذه المادة الفلسفية، وقربتها من أو الى أذهان القراء والدارسين، فضلاً على التكثيف غير اُلمخِلْ باصول البحث العلمي الاكاديمي، شاداً بقوة وحميمية على يد الباحث الدكتور طه جزاع.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق