مطارحات ميكافيللي - نيقولو ميكافيللي


مقتطفات من الكتاب

أرى أن لا أتحدث عن المدن التي كانت منذ مستهل عهدها خاضعة لسلطة مدن أخرى، وان احصر حديثي في المدن التي كانت منذ بداية نشوئها في منجاة من أية عبودية خارجية، وكانت تُحكم طبقاً لرغباتها وحدها، سواء أكانت من الجمهوريات أو من الإمارات. ولما كانت هذه المدن تختلف في منشئها، فقد اختلفت أيضاً في قوانينها ومؤسساتها. فلقد أتيح لبعضها منذ مستهل عهدها، أو بعد قيامها بأمد قصير، شخص يظهر في وقت من الأوقات يشرع لها قوانينها، كما حدث بالنسبة لإسبارطة، التي سن لها ليكرجوس شرائعها، بينما حصل البعض الآخر، عرضاً على هذه القوانين في أوقات متفاوتة، بتفاوت الظروف، وهذا ما حدث بالنسبة إلى روما مثلاً.

ولا ريب انها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية، التي تُخرج رجلاً حكيماً، يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها والتي لا يضطرون إلى تقويمها. ولقد ظلت إسبارطة مثلاً، تحترم قوانينها اكثر من ثمانمائة عام، دون إفسادها، ودون أن تحس بإزعاج يهددها. اما المدينة التي لم يتح لها الحظ منظماً عاقلاً ينظم لها شؤونها، والتي تضطر هي بنفسها إلى القيام بهذا التنظيم، فتكون تعيسة الحظ شقية. ولعل أتعس منها حظاً تلك التي تكون بعيدة عن النظام، أشقى من هذه كلها، تلك التي أخطأت منظماتها طريق الصواب الذي يقودها إلى مصيرها الصحيح والحق. إذ يستحيل حتماً، ان تعاد مثل هذه الدول إلى الطريق الصحيح ثانية، وقد تتحول إلى مرتبة الكمال الحكومة التي تبدأ بداية طيبة وتستطيع تحسين أحوالها، على الرغم من عدم صحة نظامها، إذا أتاحت لها الفرص ذلك. ولكن يجب ان يلاحظ على أي حال، ان إدخال النظام إليها ينطوي على بعض الخطر، إذ ان قلة من الناس، هي تلك التي ترحب بالقوانين الجديدة التي تعرض النظام الجديد في الدولة. الا إذا شعر الجميع بضرورة هذه القوانين بشكل واضح. ولما كانت مثل هذه الضرورة لا تنشأ عادة الا مصحوبة بالأخطار، فان الدولة قد تتعرض إلى الخراب، قبل ان تصل القوانين الجديدة إلى مرحلة التمام. ولعل فلورنسا هي خير مثل على ما أقول، فقد أعيد تنظيمها بعدما حدث في اريزو، ولكن دستورها تعرض للدمار بعد ما حدث في براتو.

ولما كان هدفي الحديث عن منظمات مدينة روما، وعن الأحداث التي أدت إلى كمالها، فإنني أود القول بأن الذين كتبوا عن الدول، يقولون انها (أي هذه الدول) لا بد وان تكون منطوية على أحد أشكال الحكم الثلاثة، وهي الإمارة، وحكم النبلاء، وحكم الشعب، وان على من يقيمون حكومة في أية دولة معينة، ان يتبنوا أحد هذه الأشكال الثلاثة، طبقاً لما يتفق وأهدافهم.

وهناك آخرون يقولون، ويعتقد البعض ان حكمهم اكثر صواباً، ان ثمة ستة أشكال من الحكومات، ثلاثة منها سيئة للغاية، وثلاثة حسنة في طبيعتها ولكن من السهل إفسادها، ولذا فمن الواجب اعتبارها من النوع السيئ أيضاً. أما الأنواع الحسنة الثلاثة فهي التي سبق لي ذكرها قبل قليل. وتكون الأشكال السيئة الثلاثة تابعة الثلاثة السابقة، وتتشابه مع تلك التي ترتبط إليها إلى حد يجعل من السهل جداً على أية دولة التحول من شكل منها إلى آخر. فمن اليسير التحول من الإمارة إلى حكم الطغيان ومن حكومة النبلاء (الأرستقراطية) إلى حكم القلة (الأوليغاركي) ومن حكومة الشعب (الديموقراطية) إلى الفوضى. وهكذا يكون من يقوم على تشكيل حكومة ويختار لها أحد الأشكال الثلاثة الأولى، قد اختار لها في الواقع حكماً مؤقتاً، إذ ليس ثمة من سبيل للحيلولة دون تحوله إلى نقيضه، وذلك بسبب ما يقوم بين الفضيلة والرذيلة في مثل هذه الأحوال من تشابه.

وترجع هذه الاختلافات في الحكومات بين الناس إلى مجرد الحظ. فلقد كانوا يعيشون في الحياة في العالم، وعندما كان عددهم قليلاً أشتاتاً متفرقين كالحيوانات. ومع تكاثر ذريتهم، بدأ الناس يقتربون من بعضهم البعض، وحرصاً منهم على تحسين وسائل الدفاع عن أنفسهم، شرعوا يتطلعون إلى رجل منهم، يكون اكبر قوة وأكثر شجاعة من غيره فينصبونه رئيساً عليهم ويدينون له بالطاعة.

وهكذا بدأ الناس يتعلمون التمييز بين النبيل والطيب من ناحية، وبين السيئ والشرير من الناحية الأخرى، وذلك لأن مرأى من يسيء إلى صاحب الفضل عليه، يستفز لديهم الكراهية للمسيء والعطف على المساء إليه، وأخذوا يوجهون اللوم إلى ناكر الجميل، وينظرون بعين الاحترام إلى كل من يقدر المعروف لأهله، ذاكرين ان عين الإساءات قد توجه إلى كل واحد منهم. وهكذا أخذوا، رغبة منهم في منع شرور من هذا القبيل، يشرعون القوانين ويفرضون العقوبات على كل من يخالفها. وظهرت فكرة العدالة إلى حيز الوجود.

وحدث، على هذا النحو، أن الناس، عندما أخذوا يبحثون عن أمير لاختياره، شرعوا لا يختارون أشجعهم، كما كان الوضع في السابق، بل أكثرهم حكمة وعدالة.

وعندما بدأوا في قبول الأمراء بالوراثة بدلاً من انتخابهم، وذلك في المرحلة التي تلت، اخذ هؤلاء الورثاء في التدهور بالنسبة إلى أسلافهم، وشرعوا يهجرون أعمال الفضيلة، ويعتبرون ان على الأمراء ان لا يعملوا شيئاً سوى التفوق على الآخرين في الإنفاق، والإقبال على الشهوات والمباذل على اختلاف أنواعها. وهذا أدى إلى تركيز الكراهية على الأمراء، الذين يلجأون إلى الخوف متى أحسوا بكراهية الناس لهم مما يؤدي بهم إلى أعمال العنف التي تنتج حكم الطغيان، وبسرعة متناهية.

ويكون حكم الطغيان في وقت قصير مصدراً لسقوط الأمراء، إذ انه يولد المؤامرات والدسائس ضد أشخاصهم ويقوم على تنظيمها أناس ليسوا بالجبناء ولا بالضعفاء، وإنما من المعروفين بميولهم التحررية، وعظمتهم وثرائهم وكفايتهم، وذلك لأن مثل هؤلاء لا يستطيعون الرضى بالحياة التي يعيشها الأمراء. وتحمل الجماهير السلاح بتحريض من هؤلاء القادة الأقوياء ضد الأمراء، وعندما تنتهي من تصفية أمرهم، تخضع لسلطان أولئك الذين تنظر إليهم على انهم محرروها. وهكذا يقوم هؤلاء، الذين ينطبق عليهم تعبير "الرئيس الفرد"، بتأليف الحكومات، فيستهلون عهودهم نظراً لتذكرهم ما عانوه في ظل الطغيان، بالحكم طبقاً للقوانين التي يشرعونها، ويخضعون مصالحهم للخير العام ويحكمون ويحافظون على النظام في الشؤون الخاصة والعامة على حد سواء، بمنتهى الدقة والضبط.

ولكن عندما كانت إدارة الحكم تنتقل إلى أفراد ذريتهم الذين لا خبرة لهم بتقلبات الحظ، والذين لم يمروا بفترات عصيبة، ولم يكونوا يشاءون القناعة بالعدالة المدنية السائدة، فأنهم كانوا يلجأون إلى الطمع والطموح، واغتصاب الناس نساءهم، مما يحيل حكومات النبلاء إلى حكومات القلة (الأوليغاركية)، التي تُهمَل فيها الحقوق المدنية تمام الإهمال، فيقع لهم ما وقع للطاغية من قبل، لأن الجماهير تملّ حكمهم، وتضحي على استعداد لعون كل من يضع خطة لمهاجمتهم، وسرعان ما يبرز إنسان يستطيع بمساعدة الجماهير ومساندتها القضاء عليهم، وتصفية أمرهم.

ولما كانت ذكريات الأمير ما تزال مائلة في عقول هذه الجماهير، ولما كانت معايبه ومخازية، لا تزال حديثة العهد في واعياتهم، ولما كانوا قد تخلصوا من حكم القلة، فأنهم، يظهرون ميلاً واضحاً إلى عدم العودة إلى حكم الأمراء، فيتجهون إلى نظام حكم الشعب (الديموقراطي)، وينظمونه بشكل يضمن عدم تركيز السلطة لا في قلة من الرجال الأقوياء، ولا في أمير من الأمراء.

ولما كانت جميع أنواع الحكومات تحظى بالاحترام في مستهل عهدها إلى حد ما، يحافظ هذا الطراز الديموقراطي من الحكم على نفسه أمداً ما، ولكن هذا الأمد لا يطول، ولا سيما عندما يكون الجيل الذي قام على تنظيمه قد قضى نحبه ومضى. وسرعان ما تسود الفوضى، ولا يظل ثمة احترام لا للفرد ولا للموظف الرسمي، ولما كان كل إنسان يعمل ما يشاء في ظل عهد كهذا، فسرعان ما تُرتكب جميع أنواع الشرور والمخالفات، وتحل النتيجة المحتومة، فتعود الإمارة إلى الحكم، اما تلبية لنصيحة إنسان طيب عاقل، أو رغبة في الخلاص من هذه الفوضى على أي سبيل. وتعود الحلقة من جديد، مرحلة، على النحو الذي فصلت، حتى تصل إلى الفوضى ثانية.

هذه هي الحلقة التي تمر بها جميع الحكومات، سواء أكانت مستقلة تحكم نفسها بنفسها، أو تابعة لحكم أجنبي. ولكن يندر ان تعود نفس الحكومة إلى نفس الشكل من الحكم في المرة الثانية. وذلك لسبب واحد، وهو ندرة تمتع الحكومات بتلك الحيوية التي تضمن لها الصمود أمام جميع هذه التقلبات، والبقاء بعدها في حيز الوجود. وما يحدث عادة هو ان هذه الحكومات، وهي تفتقر في هذه الحالة التي يسودها الهرج والمرج، إلى المشورة الصادقة والقوة، تغدو تابعة إلى دولة مجاورة لها، أحسن منها تنظيماً. ولولا ذلك، لظلت الحكومات تسير في تلك الحلقة المفرغة من التحول إلى ابد الآبدين.

وعلى ضوء ما ذكرت، أرى ان جميع أشكال الحكم التي شرحتها سابقاً ليست من النوع المرضي أبداً، وذلك لأن عمر الحكومات الطيبة قصير، ولان حياة الحكومات السيئة مليئة بالشرور والآثام. وهذا هو السبب الذي يحمل المشرعين العاقلين الذين يعرفون معايبها على الامتناع عن تبني أي من أشكال الحكم هذه، واختيار بديل عنها، يتمثل في شكل من أشكال الحكم يشترك فيه الجميع، وذلك لأنهم يرون ان هذا الشكل اكثر قوة وثباتاً، إذ لو وجد حكم الأمراء والنبلاء في دولة واحدة، لاحتفظ كل من هذه الفئات لنفسها بحق مراقبة الآخرين.

وكان ليكرجوس أحد الذين استحقوا الثناء العاطر على إقامة حكومة من هذا الطراز. فلقد عهد الدستور الذي سنه لمدينة إسبارطة إلى كل من الملوك والنبلاء وجمهرة الشعب، بمهام خاصة بها. وهكذا ادخل شكلا من أشكال الحكم، قدر له البقاء أكثر من ثمانمائة عام، مما حقق له الثناء ولمدينته الهدوء والاستقرار.

ولم تكن هذه هي حالة صولون، الذي وضع لأثينا شرائعها، فقد أقام فيها شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لم يقدر له ان يعمر طويلاً، وقضي عليه ان يشهد قبل موته ولادة حكم طاغ في ظل بيزيستراتوس. وعلى الرغم من ان المدينة قد طردت ورثة هذا الطاغية، قبل انقضاء أقل من أربعين عاماً، وعلى الرغم من عودتها إلى ظلال الحرية بعد ان تنبت من جديد شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لشرائع صولون، الا ان هذه الحرية لم تعش طويلاً، ولم يتجاوز عمرها هذه المرة المائة عام. وعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان عدداً من الدساتير قد سن للحد من غطرسة الطبقة العالية، وتطرف طبقة العامة، الذي لم يضع له صولون حدوداً أو قيوداً. الا ان حياة أثينا لم تكن طويلة إذا ما قيست بحياة إسبارطة، وذلك لا، نظام صولون الديموقراطي لم يمتزج بسلطان الأمراء أو النبلاء.

وننتقل الآن إلى روما، فعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان القدر لم يشأ لها أن تحبى بشخص كليكرجوس، يمنحها منذ استهلال عهدها، دستوراً من النوع الذي يضمن لها حياة طويلة من الحرية، الا ان الاحتكاك بين مجلسي العامة والشيوخ، قد أدى إلى وقوع أمور كثيرة لعب فيها الحظ الدور الذي يقدر للشارع ان يلعبه أو يؤديه. وهكذا إذا لم تكن روما قد حصلت من الحظ على عطيّته الأولى، فإنها قد حصلت حتماً على عطيّته الثانية. وذلك لأن تنظيماتها المبكرة، على الرغم مما كان فيها من عيوب، لم تسر سيراً خاطئاً، وإنما مهدت السبيل نحو الكمال، ولان روملوس وغيره من الملوك، استنوا عدداً من القوانين التي تتلاءم مع الحرية وتتوافق معها. ولكن لما كان هدفهم إقامة مملكة لا جمهورية، بعد ان حققت المدينة حريتها، فان هذه المملكة كانت تفتقر إلى العديد من التنظيمات اللازمة للحفاظ على الحرية، وهي تنظيمات كان من اللازم وجودها، بالنظر إلى عدم ضمان الملوك لها. وهكذا فعندما فقد ملوكها سيادتهم، لأسباب، وبطريقة سبق لي أن شرحتها في مستهل هذه المطارحة، فان أولئك الذين طرودهم من الحكم، لجأوا فوراً إلى اختيار قنصلين، يقومان بأعباء الملك، مما أدى إلى ان ما وقع عليه الطرد بالفعل، لم يتعد لقب الملك نفسه، لا السلطان الملكي. وهكذا وجد، في ظل الجمهورية الآن، وفي هذه المرحلة، القنصلان، ومجلس الشيوخ، مما عنى ان الشكل الجديد للحكم فيها قد ضم عنصرين فقط من العناصر الثلاثة التي سبق لي تعدادها، وهما الإمارة، والنبلاء. ولم يبق هناك الا العثور على مكان للعنصر الثالث وهو الديموقراطية. وقد تم هذا عندما غدا النبلاء الرومانيون من النوع الذي لا يطاق، ... مما حمل الشعب على الثورة عليهم، ومما دفعهم هم، خوفاً من إضاعة كل شيء إلى منح الشعب حصة في الحكم، مع احتفاظ مجلس الشيوخ والقنصلية، على أي حال، بالسلطة الكافية للحفاظ على مركز النبلاء في الدولة.

وهكذا بدأ الشعب يعين ممثليه (التربيون-Tribune). وأدى تعيينهم إلى إيجاد الكثير من الاستقرار في شكل الحكم في الدولة، إذا ان العناصر اللازمة الثلاثة قد تمثلت فيه. ونستنتج من هذا ان روما كانت سعيدة الطالع للغاية، لأن الانتقال من الملكية إلى حكم النبلاء، ومن الأخير إلى الديمقراطية، قد جرى في نفس المراحل، ولعين الاسباب التي حددتها في مستهل هذه الاطروحة، دون أن يؤدي انتقال السلطة للنبلاء الى إلغاء النظام الملكي ودون ان يؤدى إشراك الشعب في الحكم إلى انتزاع السلطة كلية من النبلاء، ولقد أدى امتزاج العناصر الثلاثة على النقيض من ذلك، إلى قيام دولة مثالية كاملة. ولما كان الاحتكاك بين العامة والشيوخ، هو الذي حقق هذا الكمال، فقد رأيت ان اعرض في الفصلين التاليين عرضاً وافياً الطريقة التي تحقق فيها ذلك.

هل كان في الإمكان إقامة حكم في روما يقضي على الشحناء بين الشعب والنبلاء؟
كنا نتحدث قبل قليل عن النتائج الناجمة عن أوجه الخلاف بين الشعب ومجلس الشيوخ. ولما كانت هذه الخلافات قد استمرت حتى عهد "الغراتشيين" الذين تشبهوا بالملوك، إذ تحولت آنذاك إلى الأسباب التي أدت إلى القضاء على الحرية، فقد يتبادر إلى ذهن أي إنسان ان يتساءل، هل كان في استطاعة روما ان تحقق الأشياء المجيدة التي حققتها، لو لم توجد هذه الخلافات. وهنا يبدو لي ان من الجدير ان نبحث فيما إذا كان في الإمكان إقامة نظام للحكم في روما، من شأنه تبديد هذه الخلافات، وإزالتها لو قدر له ان يقوم. وللبحث في هذا الموضوع، أرى لزاماً علينا ان ندرس أوضاع الجمهوريات التي كانت في نجوة من العداوات والفتن، والتي تمكنت مع ذلك من التمتع بحياة طويلة من الحرية، وان تتحدى أشكال حكوماتها، لنرى هل كان في الإمكان تطبيقها في روما.

وقد سبق لي ان أشرت ان إسبارطة تقوم بين الدول القديمة نموذجاً على هذه الجمهوريات، كما تقوم البندقية بين الدول الحديثة طرازاً لها. فقد أقامت إسبارطة لها ملكاً يحكمها وإلى جانبه في الحكم مجلس صغير للشيوخ. أما البندقية فلم تميز بين مختلف الأسماء بالنسبة إلى المشتركين من أصحابها في الحكومة، بل صنفت جميع اللائقين بالمناصب الإدارية في مصنف واحد أطلقت عليه اسم النبلاء أو السادة. وكان الفضل في هذا الأسلوب للحظ وحده لا لحكمة مشرعيها، فأن الكثيرين من الناس الذين تجمعوا حول هذه الشطآن الرملية التي تقوم عليها المدينة الآن، والذين اختاروها مقراً لهم بالنسبة إلى الأسباب التي سبق لي شرحها، أخذوا يزدادون عدداً، إلى أن بلغوا حداً تطلب وضع الشرائع اللازمة لتنظيم حياتهم إذا أرادوا الاستمرار فيها، وهكذا ابتكروا شكلاً جديداً لحكومتهم. وكانوا قد ألفوا الاجتماع إلى بعضهم البعض للتحدث في شؤون مدينتهم، وهكذا قرروا عندما بدا لهم ان عدد سكان المدينة اصبح كافياً لتشكيل كيان سياسي، عدم إشراك جميع من يفد حديثاً إلى المدينة للعيش فيها، في شؤون الحكومة. وعندما وجدوا مع مضي الزمن ان هناك عدداً كبيراً من السكان في المدينة قد حيل بينهم وبين الحكم، ورغبة منهم في إضفاء صفة الاحترام على الحاكمين، أطلقوا عليهم اسم السادة النبلاء، وعلى الباقين اسم العامة.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق