مستقبل الطبيعة الإنسانية: نحو نسالة ليبرالية - يورغين هابرماس


حول الكتاب

ماذا تقول الفلسفة اليوم عن المشكلات العميقة التي تواجه البشرية؟ من المعلوم أن الفلسفة لم تعد تصبو إلى القول في كل شيء كما كانت في السابق. الفلاسفة القدماء كانوا ينشئون مذاهبهم لتجيب عن كل شيء، عن الطبيعة وعن ما ورائها، عن العقل والروح والمادة، عن الرياضيات والموسيقى. ولذا كان يوجد فيلسوف طبيب وفيلسوف موسيقي دون أن يكون هناك فصل بين الدورين. مع تطور المباحث داخل رواق الفلسفة ومع ازدياد الحاجة للتخصص وقبل ذلك تعدد المناهج العلمية بتعدد الظواهر والخروج عن التأمل العقلي إلى نوع من البحث التجريبي المقنن والدقيق. من هنا استقل البحث البيولوجي والفيزيائي والنفسي والرياضي والاجتماعي وانحصر دور الفلسفة في الأخير على البحث في نظرية المعرفة (النظرية التي تبحث في المعرفة البشرية، طبيعتها، إمكانيتها، حدودها، مصادرها...) وفي فلسفة العلوم أي البحث في المبادئ والأسس والمناهج العلمية من جهة منطقيتها وتماسكها ومن أجل مساءلتها باستمرار عن مدى قدرتها على التقدم بالمعرفة البشرية. أيضا المبحث الأخلاقي لا يزال مبحثا فلسفيا حقيقيا بل أن هناك من يرى أن الفلسفة هي، في جانب هام وجوهري من جوانبها، نقد أخلاقي للمجتمع. يشترك في هذه الرؤية عدد من ممثلي الفلسفات المعاصرة: ديوي البرجماتي وهابرماس وماركوزه وفيلسوف تحليلي ككورت باير أو كاي نيلسون.

نركز هنا على المبحث الأخلاقي للفلسفة بحكم أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو في هذا الإطار بالتحديد. فهو يدخل في إطار الجدل القائم حول التقنية الوراثية التي تتطور بسرعة وتحمل مع تطورها الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالوجود البشري ورؤيته لذاته ولمستقبله وماضيه. يتساءل هابرماس في بداية الكتاب "هل يحق للفلسفة أن تدافع عن التحفظ الذي تتخذه تجاه مسائل جوهريّة تتعلق "بالحياة الصالحة" أو بما يجب على الإنسان عمله كي لا يفسد حياته. هل يمكن للفلسفة أن تتخذ ذات التحفظ تجاه المسائل المطروحة في أخلاقيات النوع الإنساني (أو الجنس البشري؟). يطرح هابرماس هذا السؤال وهو يعي أن الفلسفة، خصوصا بعد الميتافيزيقيا، لم تعد تزعم أنها تقدم أجوبة لها قوّة الإلزام عن أسئلة تتناول نمط الحياة الشخصية أو حتى الجمعية.

هل من وجود لإجابات ما بعد ميتافيزيقية عن السؤال عن "الحياة العادلة"؟

هذا هو عنوان الفصل الأول من الكتاب الذي يبدأه هابرماس في محاولة فهم للنظرة المعيارية حيث كانت هذه النظرة للكون والحياة والإنسان هي السائدة طول التاريخ من اليونان والديانات الكبرى وحواضر القرون الوسطى حيث كان هناك باستمرار "نموذج" يعطي مؤشرا للحياة التي يجب عيشها. إلا أنه مع التحولات الاجتماعية المطّردة فإن مدة صلاحية الحياة الأخلاقية هذه أخذت تنفد بسرعة. وصولا إلى العصر الليبرالي حيث أصبحت قيمة الفردية هي القيمة السائدة ولم يعد من الممكن فرض نموذج محدد على الآخرين حتى ولو كانوا الأكثرية. هل يعني هذا أن النظرة المعيارية فقدت أي دور توجيهي اليوم؟ يرى هابرماس أن الفلسفة العملية في أيامنا لا ترفض كل اعتبار معياري. إلا أنها تحصرها عامة في مسائل العدالة. إذ تهتم بشكل خاص بإيضاح وجهة النظر الأخلاقية التي لا تنقطع من خلالها عن تقييم الأعراف والأعمال الخاصة حين يتعلق الأمر بتحديد ما هو في مصلحة كل منا وما هو في الوقت نفسه في مصلحة الجميع.

بعد نقاش مطول للنظرية الأخلاقية والممارسة الأخلاقية وما حدث بينهما من انفصال وبعد نقاش لرؤية كيركجارد الأخلاقية يصل معه هابرماس إلى نظرة أخلاقية تجيب عن سؤال الحياة التي تخلص من الفشل. وهي تتمثل في صيغة عامة حول طرق قدرة الإنسان أن يكون ذاته لا بوصفها أوصافا تتناول الجوهر، بل كونها تشكّل قيمة معيارية وقيمة توجيه. هذه الأخلاقية هي التي تلبي شروط تعددية رؤى العالم.

مع فك شفرة الجينوم وإمكانية التحكم الخارجي من قبل الإنسان في التركيبة الجينية لإنسان آخر تطرح قضية في غاية الأهمية وهي هل سيشعر هذا الإنسان الذي تم تعديل تركيبته الجينية، حين يعلم بذلك، بأن له ذاتا مستقلة يعيشها أم أن تدخل الإنسان الآخر سيجعله يشعر بأنه شيء أعده إنسان آخر! يقول هابرماس هنا "وإذا كانت الأمور بهذا الشكل فإن أخلاقية إرادة أن يكون المرء ذاته ستكون إمكانية بين إمكانيات أخرى. ولذا فإن السؤال الفلسفي الأصيل عن الحياة التي يجب أن تعاش، هو سؤال يتجدد على مستوى من العمومية الأنتروبولوجية غير معروف حتى الآن. والتقنيات الجديدة ستفرض علينا نقاشا عاما يتناول الفهم الذي يجب تكوينه عن أشكال الحياة الثقافية بوصفها أشكالا ثقافية. وبالتالي فإنه ليس من أسباب وجيهة تجعل من الفلاسفة يتخلون عن موضوع خلافي كهذا لعلماء في البيولوجيا أو لمهندسين أغراهم العلم الوهمي".

نحو نسالة ليبرالية؟ النقاش حول فهم الجنس البشري لأخلاقياته.

في الفصل الثاني يستعرض هابرماس التطور الهائل الذي تم إنجازه في مجال الهندسة الوراثية انطلاقا من 1973العام الذي تمكن فيه الباحثون من فصل وإعادة دمج مكونات الجينوم. ثم استخدام التلقيح الاصطناعي منذ 1978.طبعا كل هذه التطورات مثيرة للجدل والاستفهام. الجدل اليوم على أشده بين الجمعيات العلمية التي ترغب في أن تكون لحرية البحث الدرجة الأولى من الاعتبار باعتبار أنها الطريقة السليمة ليتابع الجنس البشري مسيرة التطور. فيما تقف الأصوات الأخرى من منظمات إنسانية وأخلاقية في صف منع أي بحث علمي يهدد مستقبل الكائن البشري. التدخل الوراثي بهدف العلاج لا خلاف عليه تقريبا. الخلاف يكمن في أن يتم التحكم في مواصفات الكائن الجديد من قبل آخرين، أهله أو غيرهم. وهذا ما يعبر عنه هابرماس بقوله "نسالة سلبية" و"نسالة إيجابية" وفق مقاييس محددة سلفا.

النسالة الليبرالية بتعبير هابرماس هي النسالة التي تنتج بناء على التفضيلات الفردية لصناع السوق الذين يختارون، وفق غاياتهم، التدخلات التي تعد للتدخل في السمات الوراثية. وهذا يعني أن تحدد مقاييس السوق مواصفات إنسان المستقبل. هذا ما يعبر عنه هابرماس ب "النسالة الليبرالية". وفي هذا الإطار يقول رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية يوهانس راو في 2001"إن من يعمل على تحويل الحياة البشرية إلى أداة، أو من يميز بين حياة تستحق أن تعاش عن حياة لا تستحق ذلك، إن من يقوم بذلك يكون قد دخل طريقا لا نقطة نهاية فيها".

ما يهم هابرماس أكثر من غيره هو معرفة كيفية دخول التطور الذي تمارسه التقنية البيولوجية على تمييزات عادية بين ما ينمو طبيعيا وما هو مصنع، بين الذاتي والموضوعي، كيف يطور ذلك معرفتنا لذاتنا حتى الآن من زاوية أخلاقية الجنس البشري وتؤثّر في معرفة شخص جرت برمجته جينيا لذاته. تمثل هذه القضية خطرا كبيرا تبدو ملامحه مع تقدم التقنية الوراثية ولذا يذهب هابرماس مع ولفغانغ فون دايل في محاولة لتهذيب الطبيعة الإنسانية حين يقول "إن ما يضعه العلم تقنيا بتصرّفنا يجب أن يكون خاضعا لرقابة أخلاقية تجعلنا بالمقابل ولأسباب معيارية، غير قادرين على التصرف بها على هوانا". من هنا يتحدد سؤال هابرماس المعرفي الذي ينطلق به عمله الفلسفي في هذه القضية بالتالي: هل بالإمكان التأسيس بالعقل لحماية كمال إرث جيني لا تلاعب فيه من خلال منع الوصول عفويا إلى أسس بيولوجية لهويّة شخصية؟ قانونيا يمكن التشريع لهذا القرار تحت هذا التعبير "الحق بإرث جيني لم يخضع لتدخل مصطنع".

وبتعبير أقرب لهذه القضية يقول رونالد دوركين "أن نميّز بين ما خلقته الطبيعة، بما في ذلك التطور، وبين ما نقوم به في هذا العالم المجهّز بالجينات. يعود الفرق بكل الأحوال إلى ما نحن عليه وإلى الطريقة التي ندير بها، وعلى حسابنا الخاص، هذا الإرث. يشكل الحد الفاصل بين الصدفة والخيار الحر العمود الفقري لأخلاقنا. إننا نخشى أن يقوم الإنسان بفبركة أناس آخرين، لأن هذا الاحتمال يزيح الحدود بين الصدفة والاختيار الذي هو في أساس معايير القيمة لدينا". من هنا يرى هابرماس أن القول بأن التدخل الاستنسالي عبر التحول الوراثي سيؤدي إلى التحول في البنية الكلية لتجربتنا الأخلاقية؛ فالتلاعب بشكل الجينوم البشري بهدف فك رموزه وتطلعات بعض علماء الوراثة بهدف إمكانية معالجتهم التطور، كل ذلك يزعزع الفوارق الحادة بين الذاتي والموضوعي، بين ما ينمو طبيعيا وما هو مفبرك في أماكن لم تكن حتى الآن تحت تصرفنا. ما هو مستهدف هنا هو التطور من البسيط إلى المركب من خلال التكنولوجيا البيولوجية للتمييزات القوية التي افترضناها حتى الآن، في التوصيفات التي نعطيها لأنفسنا من منظور أخلاقيات الجنس البشري وهذا ما قد يؤثر على الضمير الأخلاقي. التدخل الوراثي قد يمس شروط النمو الطبيعي التي لابد منها لنا حتى نستطيع فهم أنفسنا بوصفنا صانعي حياتنا الشخصية وكأعضاء متساوين في الحق بالجماعة الأخلاقية. يتابع هابرماس يقول: أنا أراهن على أنه بمجرد أن يعرف الإنسان أن جينومه الشخصي قد تمت برمجته لهو عامل يؤدي إلى اضطراب الوضوح الذي بموجبه نوجد نحن بوصفنا جسدا، على ما "نحن" عليه، بشكل ما، جسدنا، وأنه من هذا الحدث سيولد نمط جديد من العلاقات اللامتوازية بشكل فريد بين الأشخاص.

يتساءل هابرماس في آخر هذا الفصل عن المستقبل البشري لو تحققت النسالة الليبرالية، أي النسالة التي يتم اختيار مواصفاتها وتحديدها للتوافق مع معايير السوق الحرة، هل يمكن للأجيال القادمة أن تتعود ألا ترى نفسها الفاعلة بشكل كامل للحياة التي تحياها وأن لا تُسأل (بضم التاء) عن حياتها بوصفها الفاعلة فيها. كيف يمكن لهم تحمل مسؤوليتهم وهم يعلمون أن إنسانا آخر قد برمجهم. كيف يمكن محاسبتهم قانونيا؟ كل هذه أسئلة يجب الوقوف عندها مطولا.

الإيمان والمعرفة

"الإيمان والمعرفة" عنوان الفصل الرابع من هذا الكتاب بعد أن كان الفصل الثالث عبارة عن هامش على الفصل الثالث. مع تقدم المعرفة الوراثية أثير جدل كبير حول العلم من جهة المؤمنين المنطلقين من وجهة دينية ومن آخرين يناقشون تمادي العلم وانقلابه على الإنسان بحيث لم يعد العلم في خدمة الإنسان بقدر ما أصبح الإنسان في خدمة العلم. مما زاد حدة هذا الجدل أحداث الحادي عشر من سبتمبر المعنونة بعنوان الدين من قبل الانتحاريين القتلة وكذلك من قبل الرئيس الأمريكي وكثير من ردود الفعل الأخرى وهذا ما يجعل هابرماس يقول "إن الأرثوذوكسيات المتحجرة مازالت موجودة في الغرب كما في الشرقين الأدنى والأقصى، بين المسيحيين واليهود كما بين المسلمين".

ولذا يرى هابرماس أنه لكي نتجنب حربا بين الحضارات فعلى الغرب أن يتفهم أكثر التوترات التي تحصل في البلدان الأخرى خصوصا في الشرق الأوسط على أنها نتيجة لتحولات العالم وعولمته. العوالم تستعد لتطوير لغة مشتركة وكل هذا العنف من أجل إيقاف هذا التطوير والتقارب. إلا أن الإشكال هو أنه في المجتمعات المعلمنة أو التي تسير في طريق العلمنة لا تبدو الأمور واضحة بشأن دور الدين في المجتمع. فالمجتمعات المابعد حداثية أصبحت تتفهم عودة الدين للحياة العامة كجزء من النسيج الكلي لكن هذا كله يتم في إطار رسوخ الوعي بالعلمانية ورسوخ المؤسسات والتقاليد في هذا الشأن. ولذا على المؤمنين الذين لا يعون هذه الصيرورة وهم في الغالب من الشرق الأوسط أن يعلموا أن دور الدين مقبول في الحياة العامة ولكن بشروط. أولا: من الضروري أن يبذل الوعي الديني مجهودا ليتجاوز التفاوت المعرفي الذي لا بد أن يبرز من الالتقاء بالطوائف والديانات الأخرى. ثانيا: على هذا الموقف أن يماشي سلطة العلوم التي تحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة على العالم. ثالثا: لا بد أن ينفتح هذا الموقف على أولويات دولة الحق الدستوري، هذه الأولويات التي تستند إلى أخلاق دنيوية.

"صراع الإرث بين الفلسفة والدين" عنوان فرعي في هذا الفصل يستعرض فيه هابرماس علاقة الفلسفة الألمانية بالدين. ابتداء أدى ارتباط المسيحية بالفلسفة الهيلينية إلى اتحاد وثيق بين الدين والميتافيزيقا إلى أن وضع كانط حدا لذلك. إذ رسم حدودا صريحة بين الإيمان الأخلاقي في الدين العقلاني والإيمان الوضعي بالوحي. مع هيجل، يقول هابرماس نصل إلى "عقيدية الأنوار" الخالصة. هزئ هيجل بانتصار العقل، فبدل العقل الذي "يفرض حدودا" ظهر عقل مستأثر. إلا أن تلامذته خرجوا من هذا اليأس وكما يقول هابرماس أن ما أرادوه لم يكن قد تجاوز الدين في الأفكار بل تحقيق مضامينه في شكلها الدنيوي عبر جهد مشترك من التكافل. يتمثل هذا في نقد الدين في أعمال فيورباخ وماركس إلى بلوخ وبنيامين وأدورنو.

إلا أن هابرماس يرى أن المساحة التي تفصل بين الفلسفة والدين هي بالفعل أرض قابلة للتفجير. فالفلسفة تقع بسهولة في إغراء الإدعاء لنفسها في شيء من التقديس وهنا بالذات تتحول إلى دين. كما أن الديانات باستمرار تتحول مع التاريخ إلى الدنيوي وتتخلى عن تعاليها. وهذا التشابك يظهر جليا في مناقشة الهندسة الوراثية اليوم بين الدين والعلم والفلسفة. وفي الختام يعود هابرماس ليصيغ السؤال الذي شغله باستمرار ويلخص أطروحته حول تحكم الإنسان في الهندسة الوراثية لإنسان آخر ويقول: "ألا يدمر الإنسان الأول، الذي يحدد في كينونته الطبيعية إنسانا آخر تبعا لإرادته الطيبة، بعمله هذا الحريّات المتساوية الموجودة بين المتساوين بالولادة بهدف ضمان الفرق فيما بينهم؟".

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق