حول الكتاب
ما إن تقلب خريطة العالم رأساً على عقب، حتى يغدو في استطاعتك رؤية المحيط الهندي وقد بدا تجويفاً واسعاً غير منتظم الشكل، تحدّه شواطئ أفريقيا وآسيا وجزر أندونيسيا وساحل أستراليا الغربي. وخلافاً للمحيطين الأطلسي والهادي اللذين يتداخلان عند حدودهما القصوى الشمالية والجنوبية، مع البحار القطبية، فإن المحيط الهندي هو محيط استوائي بصورة كاملة، والإتيان على ذكره يستدعي مشهداً قوامه جزر تحفها أشجار النخيل، وبحيرات تنطلق فيها أسماك تتدرج ألوانها كألوان قوس قزح وسط الصخور المرجانية.
تلك هي الصورة التي تحملها الكتيبات السياحية، ولكن وراءها يكمن المحيط الهندي ذو التاريخ الممتد، وأحد مراكز التقدم الإنساني، والساحة الهائلة التي اختلطت فيها أعراق عديدة، وتعاركت، وتبادلت التجارة عبر آلاف السنين. وكانت لأقدم الحضارات في مصر ووادي دجلة والفرات وسيلتها المباشرة للوصول إلى المحيط الهندي عن طريق البحر الأحمر والخليج العربي.
وفي المحور الممتد باتجاه خط الاستواء يقع شبه القارة الهندية، وهو ذاته موقع ثقافات قديمة نشأت في وادي السند. ومنذ عهد سبق بكثير عصر الإسكندر الأكبر عاد الرحالة جالبين معهم الحكايات عن الشرق الثري البهيج. والإمبراطور تراجان الذي بلغ الخليج العربي منتصراً في عام 116 بعد الميلاد، وشاهد البحارة وهم يبحرون إلى الهند ندب حظه العاثر الذي شاء له أن يكون أكثر تقدماً في العمر من أن يقوم بهذه الرحلة ويشاهد عجائبها.
وعلى امتداد ما يقرب من ألف عام بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية. كان الجانب الغربي من المحيط الهندي الذي يشكل محور البحث في هذا الكتاب، كياناً قائماً بذاته، يعادل في ذلك البحر الأبيض المتوسط ويفوقه ثروة وقوة. وقد ازدهرت الفنون والثقافة هناك، في مدن قدم إليها التجار، من أنحاء العالم المعروف كافة. وكان هناك أيضاً الكثير من الاضطراب مع قيام الجيوش الغازية التي حشدت في بقاع نائية من آسيا بالاندفاع لإطاحة الإمبراطوريات القديمة، وفرض أنظمة أسر حاكمة جديدة. غير أن حياة الأفراد العاديين حكمتها الطبيعة على الدوام بأكثر مما حكمتها الأحداث الكبرى؛ فقد حكمتها الرياح الموسمية التي لا تتوقف عن الهبوب في مواعيدها، بأكثر مما حكمتها الممالك سريعة الزوال. والكلمة الإنكليزية التي تترجم بالريح الموسمية، وهي (monsoon) مشتقة من الكلمة العربية "موسم". ومنذ جرؤ البحارة على المخاطر بالقيام برحلات عبر البحار المفتوحة حملت هذه الرياح الموسمية سفنهم بين الهند وحاراتنا البعيدة، وهي تهب في اتجاه واحد على امتداد ستة أشهر، ثم تهب في الاتجاه المعاكس خلال النصف الثاني من العام، فالرياح الموسمية الصيفية الآتية من شرق أفريقيا والبحار الجنوبية يجتذبها باتجاه الشرف دوران الأرض، وذلك بعد عبورها خط الاستواء، بحيث أنها تندفع عبر الهند، وصعوداً عبر خليج البنجال، وتصبح هذه الرياح أقوى ما تكون في الفترة ما بين حزيران/يونيو وآب/أغسطس من كل عام.
وربما لم يدرك قياطفة البحر في قديم الزمان سر ظاهرة هبوب الرياح الموسمية (كيف أن هؤلاء الأكثر برودة يندفع باتجاه الشمال فوق المحيط في السيف، نحو أراضي آسيا الحارة، ثم باتجاه الجنوب من جبال الهيمالايا والسهول الهندية في الشتاء). وبالنسبة إليهم كان كافياً أن تهب الرياح في موعدها، عاماً بعد الآخر، لتملأ أشرعتهم. وبالنسبة لمزارعي لهند، كذلك كان يكفي أن يعرفوا أن الرياح الموسمية تثير الفزع في أوقات عنفوانها، حيث لا تجرؤ سفينة على الإبحار، وتكتسح الفيضانات قرى بكاملها، وتخف الأعاصير الدمار وراءها.
وقد يمكن القول بأن الإيقاع الذي لا مهرب منه والناجم عن هذا المناخ، قد ولد نزعة قدرية معينة في نفوس شعوب المحيط الهندي، ومع ذلك فإن الرياح الموسمية عُدَّت منذ زمن بعيد من أكثر الظواهر الطبيعية اتساماً بالطابع المعتدل الرقيق، وهي كما يقول جون راي، وهو عالم إنكليزي ينتمي إلى القرن السابع عشر: "موضوع يستحق تأملات أعظم الفلاسفة". قبل "عصور الكشف" مرّ ألف عام من الجهل المطبق تقريباً في أوروبا، إزاء ما يتعلق بالمحيط الهندي والأراضي المطلة عليه، وقد ظهرت في إحدى المراحل خلال ذروة اتساع الإمبراطورية الرومانية تجارة مزدهرة مع الشرق، قام بها أساساً البحارة الإغريق، الذين تعلموا كيف يستغلون الرياح الموسمية؛ وجلبوا معهم الحلي والقرفة والعطور والبخور، وكذلك أنواع الحرير والقماش الهندي الشفاف الذي كانت نساء روما يَتُقْنَ إليه.
ولكن مع انهيار الحضارة اليونانية والرومانية في أوروبا، فقد الأوروبيون المعرفة كلها التي اكتسبها الإغريق. عندما بدأت أوروبا أثناء العصور الوسطى بالتطلع إلى طريق جديد يفضي إلى الهند، لتتجاوز حاجز الإسلام المنتصب في الشرق الأوسط، أحبطت كتلة أفريقيا الهائلة بحارتها طويلاً، إلى أن قام البرتغاليون في نهاية المطاف بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وكانت رحلة فاسكو داجاما إلى الهند والعودة منها في السنوات 1497-1499 أطول رحلة بحرية قام بها الأوروبيون على الإطلاق.
ضمن هذا الإطار يأتي كتاب "إمبراطوريات الرياح الموسمية". وفيه يوضح المؤلف كيف أن الوجود الأوروبي، اعتباراً من القرن السادس عشر فصاعداً، قد غيّر حياة المحيط الهندي، على نحو لا رجعة فيه، فقد تمّ إخضاع ممالك مزدهرة، وأصاب الاضطراب العلاقات التي قامت فيما سلف بين الديانات والأعراق. ومع قدوم الرأسمالية الغربية أصبحت أنماط التجارة القديمة شيئاً منقرضاً، كطائر "الدودو" الذي قضى البحارة الهولنديون على وجوده قضاءً مبرماً في جزيرة موريشوس)، ومع ذلك فإنه على الرغم من أن مدافع أوروبا قد استطاعت إنشاء إمبراطوريات في الشرق، فإن السكان هناك كانوا أكثر عدداً من أن يتم إخضاعهم بصورة مستديمة. وما حدث في الأمريكتين ما كان ليتكرر في آسيا أبداً، إذ يتألف سجل التدخل الأوروبي والتصدي له من مزيج من العنف والفجور والشجاعة.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق