طالعت باندهاش وحيرة تصريحًا نُسِب لفضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر على أحد المواقع الإلكترونية يقول فيه أن نظرية داروين في التطور مضطربة ولا سند علمي لها. وكم أتمنى أن يكون نَسْبُ الخبر لفضيلته غير صحيح، فما كنت أحب أن أجد نفسي مضطرا لمحاججته في هذا الأمر وهو رجل نُكن له جميعا مشاعر إجلال وإكبار يليقان بقدره.
واضطراري للمحاججة يفرضه اشتغالي بالبحث العلمي في مؤسسات علمية عالمية منضبطة، وانكشافي اليومي على ما أنجزه وينجزه العالم المتقدم من إبداعات لامست السحاب، أدت إلى رفع مستوى المعيشة وتحقيق رفاهية الشعوب، مقارنة بما غرقنا نحن فيه من مستنقعات التخلف والجهل الآسنة. فلم نعد نبرع في شئ سوى إثارة الفتن والتقاتل وجز الرؤوس. وتحولنا إلى أشلاء جثث يتخطفها الطير، لا يلقي لنا أحد بالا ولا تاخذنا الأمم مآخذ الجد.
وأحد أسباب ذلك التفاوت المريع في ظني أن الإعلام العربي قد أدخلنا في دهليز مظلم يتلهى فيه الناس بنفير مزامير السياسة الصاخبة وبزيغ الخطاب الديني الركيك، دون أي محاولة جادة لتقديم مادة علمية تنويرية جاذبة ذات قيمة، تُبَشر بالبحث العلمي وتدعمه وتُعَرِّف بأساسيات العلوم الحديثة وبسِيَر العلماء العظام. وللأسف الشديد يقف على باب الدهليز، بعض رجال الدين الراغبين في زج أنوفهم في كل شئ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. يسحبون قوانين الفيزياء والبيولوجيا والفلك إلى حلبات النزاع الفقهي المذهبي. فانتشرت الخرافات وسادت الضحالة الفكرية، حتى ظن الكثير من العامة أن بإمكانهم استيعاب قوانين نيوتن للحركة مثلا من خلال الاستماع الي خطبة جمعة أو فهم نظرية التطور من خلال درس ديني مسائي. وهذه علوم نَجْهَد في تدريسها في الجامعات، من خلال مناهج دراسية نظامية متراتبة، لا يُجاز فيها سوى الطلاب النابهين حين نطمئن على إلمامهم الكامل بأسُسِها وطرائقها. وكان الأحرى بالأزهر أن يسترشد بأراء علماء كبار من أمثال د. أحمد زويل و د. مصطفي السيد و د. مجدي يعقوب و د. محمد غنيم وغيرهم قبل ان يخوض في غمار مثل هذه الأمور المتخصصة.
وفي هذا السياق، أجد أنه من واجبي كمشتغل بالبحث العلمي أن أٌبَصِّر بعالم فذ لا يزال يُعرف في العالمين العربي والإسلامي بالمجنون صاحب نظرية القرد، في حين يُحتفى به في العالم المتقدم كأحد كبار العباقرة وصاحب إحدى أهم النظريات العلمية الحديثة. هوعالم كبير ترك طواعية حياة الراحة والدعة وتفانى في بحثه وتمحيصه حتى نزل مكانا عليا مستحقا من الشهرة والمجد، يا ليتنا نستخلص من سيرته عبرا وقيما تعوزنا اليوم إن نحن أردنا تقدما وسبقا.
وُلد تشارلز داروين في الثاني عشر من فبراير عام ١٨٠٩ م لأسرة أرستقراطية عريقة في مدينة شروزبيري التاريخية بوسط غرب إنجلترا ونشأ فى رغد من العيش. مدفوعا من والده الطبيب المرموق، شرع داروين في دراسة الطب بجامعة إدينبرة عام١٨٢٥م، إلا أنه أدرك سريعا أن الطب لا يستهويه ولا يشبع فضوله. فتحول إلى جامعة كامبريدج لدارسة العلوم الدينية حيث تعرف علي أستاذ في علم الأحياء يدعي جون هينسلو وأستاذ أخر في علم الجيولوجيا يدعي أدم سيدجويك، أثارا إهتمامه بالعلوم البيولوجية والجيولوجية. وقد أفاد منهما داروين كثيرا حيث كان ينتظم في حضور محاضراتهما العلمية ويرافقهما فى رحلات إستكشافية ليتعلم أصول تجميع العينات الطبيعية وحفظها وتدوينها. وقد أثار داروين إعجاب الكثير من علماء الأحياء فى ذلك الوقت بقدرته الفائقة على الاستنباط العلمي وشغفه وروحه الوثابة، وكذلك بمهاراته فى تجميع العينات الطبيعية ودقته في التدوين والملاحظة. لذا تم إختيار داروين للسفر على متن السفينة الاستكشافية "بيجل" عام ١٨٣١م.
إختار داروين إذن أن يترك حياة الترف والنعيم التى وفرتها له أسرته الموسرة، وأن يبذل خمس سنوات (١٨٣١ـ١٨٣٦ م) من زهرة شبابه على متن سفينة تستكشف سواحل أمريكا الجنوبية وأستراليا، معرضا حياته لخطر الموت غرقا أو مرضا. اضطلع داروين على متن السفينة بمهام عالم الأحياء الجاد والصارم، فكان يقوم بتجميع مئات العينات الحيوانية والنباتية والجيولوجية ثم يقوم بحفظها وتدوينها وفق منهج علمي منضبط. ولنا أن نتخيل مشقة هذا الأمر في زمن لم يكن فيه كاميرات تصوير إلكترونية أو أجهزة حاسوب.
خرج داروين من تلك الرحلة بعدة ملاحظات هامة، أصبحت فيما بعد أساسا لنظريته الشهيرة عن أصل الأنواع. كانت الملاحظة الأولى هي أن الحياة البدائية على الجزر شديدة القسوة والضراوة، على خلاف الظاهر الجاذب الكاذب. تلتهم الحيوانات فيها بعضها بعضا وتتصارع من أجل البقاء. فلا مكان لكائن غير متأقلم مع البيئة المحيطة، قادر على سحق منافسيه، ماهر في التخفي عن أعدائه. حتى أن أشجار الغابات تتصارع من أجل البقاء. فكثيرا ما نجد أشجارا عملاقة وقد التفت حول جذوعها الضخمة ضفائر خشبية سميكة وكأنها تزينها، لكنها في حقيقة الأمر حبائل شنق متدلية من قمة الشجرة. هي جذور ناخرة نبتت من بذرة صغيرة، علقت في قدم حيوان متسلق فوجدت طريقها إلى أعلى الشجرة المشمس، لتنمو سريعا وتجثم على صدر الشجرة الأم.
وكانت الملاحظة الثانية أن هناك تنوع شديد في عالم الكائنات الحية. فها هي البكتيريا التي لا تُرى بالعين المجردة تحيي في أحشاء الأفيال العملاقة وهاهي السحالف المتأنية تجاور الغزلان الرشيقة. أينما تولي بوجهك تجد أسماكا تسبح وحشرات تطن وأفاع تزحف وأناسا تترجل. وإذا فحصت طائفة واحدة من الكائنات الحية كالحشرات مثلا لوجدتها تحتوي على ألوف مؤلفة من الفصائل والرتب والممالك. فما أصل كل هذا التنوع وسببه؟ كان هذا هو السؤال الرئيسي الذي ملأ على داروين حياته والذي حاول الإجابة عنه في كتابه الشهير "أصل الأنواع".
كانت الملاحظة الأخيرة لداروين تدور حول التشابه التشريحي الغريب بين الكائنات الحية. فإذا تأملت مثلا الهيكل العظمي للسمكة فلا بد أن تلحظ تشابها تركيبيا ما بينه وبين العمود الفقري للإنسان. وتمتلئ الطبيعة بألاف الكائنات البينية من السمكة حتى الإنسان، تبتعد هياكلها العظمية تدريجيا عن شكل هياكل الأسماك لتقترب رويدا رويدا من تركيب هيكل اللإنسان.
جمع داروين ملاحظاته الثرية ونتائج رحلته الطويلة وفهرسها وعكف على تأملها ودراستها زهاء الثلاثة والعشرين عاما حتى خرج كتابه الشهير "أصل الأنواع" للنور في عام ١٨٥٩م. وقد نفذت الطبعة الأولى من الكتاب فى اليوم الأول لنشره. ولا يزال هذا الكتاب هو الأشهر والأهم في علم الأحياء حتى يومنا هذا.
وقد شرح داروين في الكتاب نظريته الفريدة عن أصل الأنواع والتى تتلخص في أن كل الكائنات الحية ذات أصل مشترك، سلالة بعضها من بعض. وأن الأنواع المختلفة من صور الحياة قد تفرعت وتعددت عبر بلايين السنين بما اقتضته طبيعة البيئة المحيطة، عبر تعديلات طفيفة متأنية في المادة الوراثية. وقد اعتلى الإنسان قمة هرم التطور بما له من وعي مدرك وقدرة على التفكير والتخيل.
وعلى نهج خيرة العلماء، أقر داروين فى أحد فصول كتابه بأن هناك مشاكل وأسئلة تعجز نظريته عن الإجابة عليها. وتتضمن هذه الأسئلة كل ما يتعلق بكيفية النشوء والخلق الأول. فالنظرية معنية بأسباب وأليات التنوع الطبيعي، لكنها لا تفسر نشأة الحياة.
ولقد تراكم حجم هائل من المعارف والعلوم خلال المئة والخمسين عاما التي تلت نشر الكتاب، خاصة في مجال الجينات والبيولوجيا الجزيئية، لتُدمغ نظرية داورين بخاتم الرصانة والرسوخ والتفرد.
وقد حصل داروين على العديد من الجوائز والمناصب العلمية الرفيعة أثناء حياته التي عاشها مريضا منهكا. وتوفي في التاسع عشر من أبريل عام ١٨٨٢م، ودفن إلى جوار العظيم إسحق نيوتن في كاتدرائية ويست منسترابي التاريخية بلندن في جنازة رسمية مهيبة لا تقام إلا لعظماء إنجلترا. وقد نعته كل المحافل العلمية العالمية حول العالم في حينها.
إن الاستخفاف بالعلم والعلماء والتقليل من قيمة الكدح والإجتهاد والعمل الشريف عن طريق مناقشة النظريات العلمية في غير محلها، لهى أمور مذمومة، تؤثر بالسلب على قيمة العلم في المجتمعات، لا تعين على نهضة ولا تستقيم معها طرق النجاح والنبوغ.
وإني لعلى قناعة تامة بأن فضيلة الإمام الأكبر يعي أن الأزهر هو آخر قلاع التنوير والإصلاح الديني الباقية في العالمين العربي والإسلامي، وأن ترميم أدمغة البشر أهم وأبقى من ترميم أعمدة الحجر. راجيا أن يتسع صدر فضيلته لنقدٍ ودود يحفظ له قدره وتميزه ودوره الوطني.
* أستاذ الفيزياء الحيوية المساعد بجامعتي القاهرة وجنوب إلينوي
0 التعليقات:
إرسال تعليق