هل تذكرون تلك النظارات الطبية ذات العدسات السميكة الثقيلة، التي كنا نسميها "كعب الكوباية"؟ هل جربتم شعور من كانوا يضطرون لاستعمالها، خصوصا من الأطفال؟ كنت واحدا من هؤلاء، الذين اضطروا لذلك لسنوات، وجاء اختراع "مارجا فاولشتيش"، الكيميائية الألمانية، لعدسات أخف وزنا، وأفضل في الرؤية، وأكثر جمالا، ليؤذن بجيل جديد من النظارات الطبية، والأجهزة البصرية، الأجمل والأفضل.

البداية
ولدت "مارجا" في 16 يونيو عام 1915م، في "فايمار"، التي صارت عاصمة لجمهورية فايمار، التي تأسست في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، لأب كان مديرا لمكتب محامي، وأم كانت سكرتيرة في مكتب للمحاماة.
في عام 1922م، كانت "مارجا" في السابعة من عمرها، عندما انتقلت الأسرة المكونة من 5 أفراد إلى مدينة "يينا" شرق البلاد، حيث تم تعيين الأب مديرا، والتحقت هي بالمدرسة ليظهر شغفها بالعلوم الطبيعية مبكرا.
في أواخر العشرينيات، عصفت الأزمات السياسية والاقتصادية بجمهورية "فايمار"، وضربت البطالة أحلام الملايين، ما عجل بوصول "أدولف هتلر" إلى سدة الحكم.
أنهت "مارجا" دراستها الثانوية، عام 1934م، ورغم ارتفاع معدلات البطالة، وجدت "مارجا" فرصة للتدريب كمساعد باحث في شركة "شوت"، الشركة الرائدة في صناعة الزجاج في أوروبا، لتبدأ عملها مع الشركة منذ عام 1935م.
في البداية، عملت "مارجا" في مجال الأغشية الرقيقة، حيث أظهرت كفاءة نادرة، وساهمت بدور بارز في تطوير تقنيات طلاء الزجاج، التي لا تزال تستخدم حتى الآن، في صناعة النظارات الشمسية، والعدسات المضادة للانعكاس، وواجهات المحلات الزجاجية الملونة، وألواح الطاقة الشمسية، وتقديرا لكفاءتها، تم ترقيتها من متدرب إلى فني، ثم إلى مساعد علمي، في غضون سنوات قليلة.
فقدت "مارجا" حبيبها في الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين، اقتصرت حياتها على الزجاج كمهنة، ورياضة التنس كهواية تمارسها في أوقات الفراغ.
التحقت "مارجا" بجامعة "يينا" لدراسة الكيمياء، في عام 1942م، إلى جانب استمرارها في العمل بالشركة، لكنها لم تتمكن من استكمال الدراسة بسبب ويلات الحرب، التي عصفت بأوروبا والعالم، وكأن الحرب تترصد أحلامها، فبعد أن خطفت حبيبها، وحرمتها من الزواج، منعتها من استكمال دراستها.

بعد الحرب
بناء على اتفاق بين القوى، التي خرجت منتصرة من الحرب، تم تقسيم ألمانيا في 1949م، وخضعت "يينا" إلى "ألمانيا الشرقية"، وأصبحت شركة "شوت" تحت سلطة الاتحاد السوفيتي السابق.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفاءها الغربيون، لم يقبلوا بفقدان هذه الخبرات العلمية والتقنية المتطورة في الشركة، لذلك تم إجلاء 41 من خبراء الشركة إلى ألمانيا الغربية، وكانت"مارجا" من بينهم.
وفي ذات صباح، حملتهم شاحنات الجنود الأمريكيين، مع قليل من ممتلكاتهم، إلى محطة القطار، كان مشهدا حزينا، كما وصفته "مارجا" فيما بعد، قالت: "لم نكن نعلم ما يخبئه لنا المستقبل"، عاشت بعده فترة من الإحباط وعدم الاستقرار في جنوب البلاد.
في عام 1949م تم بناء مختبر للبحوث في "لاندشوت" غرب البلاد، لأولئك الذين تم ترحيلهم من "يينا"، وبدأ العمل من جديد، بمشاركة الأمريكيين في تطوير عدسات النظارات الطبية، ثم تقرر أن يتم بناء مصنع للشركة في وسط ألمانيا، وافتتح المصنع الجديد، في عام 1952م، على مشارف مدينة "ماينز"، وانتقلت "مارجا" إلى هناك، حيث عاشت حتى آخر عمرها.

سنوات في ماينز
بدأت "مارجا" العمل بحماس كبير من أجل تعويض ما فات، وشاركت زملاءها في ابتكار وتطوير عدسات عالية الجودة، مقاومة للحرارة، وخفيفة الوزن، لأغراض صناعة النظارات، والميكروسكوبات، والتلسكوبات، ونظارات الميدان، وعدسات خاصة، لقياس مدى البصر أو قوة الإبصار، وكاميرات التصوير.
وكان اختراعها للعدسات، التي عرفت باسم (SF64)، فتحا عظيما في مجال صناعة العدسات، فقد تميزت بقوتها الكبيرة، ومعامل انكسارها الكبير، وخفة الوزن، وحصلت بموجبها على براءة اختراع من عدة دول أوربية ومن الولايات المتحدة.
وتقديرا لدورها الرائد في تطوير صناعة العدسات، كانت "مارجا" أول سيدة تشغل وظيفة المدير التنفيذي للشركة، وفي عام 1973م، منحها المجلس الأمريكي لبحوث الصناعة جائزة ضمن جوائز منحت لأهم الإنجازات في بحوث الصناعة.
خلال فترة عملها الطويلة، عملت "مارجا" بإرادة قوية وتعاون فريد مع زملاءها، وطورت أكثر من 300 نوع من الزجاج، وحصلت وحدها، ومع زملاءها، على أكثر من 40 براءة اختراع، في تكنولوجيا صناعة الزجاج والعدسات.

قبل الرحيل
تقاعدت "مارجا"، في عام 1979م، ومع ذلك لم يتوقف هذا العقل المبدع عن الابتكار، فحصلت بعد تقاعدها على 5 براءات اختراع جديدة في صناعة العدسات، وصار بوسعها أن تسافر إلى بلدان العالم، لتشارك في الندوات والمؤتمرات الدولية وتحاضر في علوم وتكنولوجيا الزجاج.
ورحلت "مارجا"، في الأول من فبراير، من عام 1998م، في مدينة "ماينز"، عن عمر ناهز 82 عاما، ورغم أنها لم تتخرج من الجامعة، قدمت لصناعة الزجاج والأجهزة البصرية هدايا لا تقدر بثمن.
0 التعليقات:
إرسال تعليق