كيف تزيّف أوروبا تاريخها الاستعماري؟


الاستعمار: واحدٌ من تلك الأشياء التي لا يمكن مناقشتها في مجلس مهذب، على الأقل ليس شمال المتوسط، يشعر معظم الناس بعدم الارتياح جراء ذلك الأمر، ويفضّلون التظاهر بأنه لم يحدث بتاتًا.

يبدو أن ذلك، في الواقع، هو الموقف الرسمي أيضًا، ففي الحديث عن التنمية الدولية الذي تديره مؤسسات مثل البنك الدولي أو الإدارة البريطانية للتنمية الدولية، فإن التاريخ الاستعماري تتم إزالته بانتظام.

طبقًا للروايات الرسمية، فإن الدول النامية فقيرة بسبب مشاكلها هي الخاصة، بينما الدول الغربية ثرية؛ لأنها عملت بجد واجتهاد، وتمسكت بالقيم والسياسات الصحيحة، ولأن الغرب متقدم كثيرًا، فإن دوله “تتكرم” على باقي العالم بقليل من “الدعم”؛ لتساعدها في المضي قدمًا.

حتى عند الاعتراف بالأمر، فإنه يُذكر لا كجريمة، بل كمنفعة للشعوب المُستعمَرة؛ مساعدة في الارتقاء درجة على سلّم الحضارة.

لكن السجلات التاريخية تحكي قصة مختلفة، وتطرح أسئلة صعبة عن موضوع آخر، يُفضّل الأروبيون تفادي الحديث عنه: التعويضات، لكن رغم محاولاتهم الجاهدة، يطفو الموضوع إلى السطح مرارًا وتكرارًا.

مؤخرًا، وبعد مناقشة في إتحاد أكسفورد، اجتذبت القضية التي طرحها نائب البرلمان الهندي “شاشي ثارور” أكثر من 3 ملايين مشاهدة على موقع Youtube.

يكمن خطر المناقشات حول التعويضات في أنها تقلب الرواية الرسمية عن التنمية رأسًا على عقب؛ فهي تقترح أن فقر النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ليس ظاهرة طبيعية، وإنما استحدثتها الدول الغربية باستعمارها، واضعة إياها لا في موضع المنتفع، بل في موضع الناهب لثروات الجنوب.

عندما نتحدث عن ميراث الاستعمار، فإن بعض الحقائق صادمة لدرجة تستعصي على الفهم، عندما وصل الأوروبيون إلى ما نعرفه الآن بأمريكا اللاتينية، عام 1492، فإن عدد السكان الأصليين حينها ربما كان بين الخمسين والمائة مليون. وبحلول منتصف القرن السابع عشر، قلّ العدد إلى ثلاثة ملايين ونصف. أغلب الوفيات كانت بسبب الأمراض الأجنبية، والبقية تمّ ذبحهم، أو قضوا بسبب العبودية، أو تم تجويعهم حتى الموت بعد طردهم من أراضيهم. لقد كانت جريمة تعادل الهولوكوست سبع مرات.

ماذا كان الأوروبيون يسعون خلفه؟ الفضّة! بين عامي 1503 و 1660، تم شحن 16 مليون كيلوجرامًا من الفضة إلى أوروبا، لترفع الاحتياطي الأوروبي من المعدن إلى ثلاثة أضعاف، وبحلول بدايات القرن التاسع عشر، فإن ما سحبته أوروبا من شرايين أمريكا اللاتينية من فضة لتضخه في الاقتصاد الأوروبي بلغ 100 مليون كيلوجرامًا، وهو ما وفر كثيرًا من رأس المال الذي اعتمدت عليه الثورة الصناعية.

أشبع الأوروبيون احتياجاتهم من العمالة في المستعمرات – سواءً في المناجم أو في المزارع – ليس فقط باستعباد السكان الأصليين، وإنما بشحن العبيد من أفريقيا، حوالي 15 مليونًا منهم في مستعمرات شمال أمريكا وحدها، تقدّر ساعات العمل الإجباري (السخرة) التي أجبر الأوروبيون العبيد عليها بحوالي 222.5 مليون ساعة، بين عامي 1619 و 1865. لو قدّرنا أجر هذه الساعات بالحد الأدنى الأمريكي للأجور، فسيساوي 97 تريليونًا من الدولارات.

الآن، تسعى 14 دولة من دول الكاريبي إلى مقاضاة بريطانيا من أجل الحصول على تعويضات العبودية، مشيرين إلى أنه عندما قضت بريطانيا على العبودية عام 1834، فإنها لم تعوّض المستعبدين، وإنما مالكيهم، بحوالي 20 مليون يورو، أو 200 مليون يورو بحسابات اليوم.

ربّما تطالب هذه الدول بتعويضات تقترب من هذا الرقم، لكن هذا سيعدّ تجاهلًا لساعات العمل التي قضاها هؤلاء العبيد، والصدمة التي لحقت بهم، ناهيك عن هؤلاء الذي استعبدوا حتى الموت قبل إنهاء العبودية في 1834.

هذه الأرقام لا تخبرنا إلا بجزء صغير من القصة، لكنها تساعدنا على تخيل القيمة الهائلة التي تدفقت إلى الصناديق الأوروبية من أمريكا اللاتينية وأفريقيا بعد 1492.

“إن أوروبا لم تنمّ المستعمرات، لقد نمّت المستعمرات أوروبا!”

ثم تأتي الهند، عندما احتلتها بريطانيا، غيّرت نظامها الزراعي بالكامل، مدمّرة محاصيل الإعاشة السابقة؛ لتفسح الطريق للمحاصيل التي تريد تصديرها إلى أوروبا.

وكنتيجة، مات ما يقرب من 29 مليون هنديًا جوعًا، في خلال آخر عقود القرن التاسع عشر، وهو ما سمّاه المؤرخ مايك ديفيس بآخر المذابح الفيكتورية، حدث هذا بينما كانت الهند “تُصدّر” ما يقرب من 10 ملايين طنًا من الطعام كل عام.

سعى المستعمرون البرطانيون أيضًا إلى تحويل الهند إلى سوق واقع تحت أسر السلع البريطانية، فقاموا بتدمير الصناعات المحلية الهندية التي كانت يومًا مثار إعجاب واسع قبل وصول البريطانيين، استحوذت الهند على 27% من الاقتصاد العالمي طبقًا للاقتصادي أنجوس ماديسون.

وعندما حان وقت رحيلهم، كانت حصة الهند من الاقتصاد العاملين قد انخفضت إلى 3 بالمائة فقط، نفس الشيء حدث للصين بعد حربي الأفيون، عندما احتلت بريطانيا الصين وفتحت حدودها للسلع البريطانية بشروط غير عادلة، لتنخفض حصة الصين من 35% إلى 7% من الاقتصاد العالمي.

في ذات الوقت، زاد الأوروبيون من حصتهم إلى 60% خلال الفترة الاستعمارية، إن أوروبا لم تنمّ المستعمرات. لقد نمّت المستعمرات أوروبا!

كل هذا، ولم نذكر حتى الزحف على أفريقيا: في الكونجو، تسبب طمع البلجيكيين في العاج والمطاط في قتل حوالي 10 ملايين كونجولي – حوالي نصف سكان الكونجو وقتها. وتم استخدام الثروات التي نهبتها بلجيكا في تمويل التحف المعمارية الجميلة، والمرافق العامة العظيمة، من منتزهات ومحطات قطار – كل معالم التقدم التي تزين بروكسل اليوم، مقر الاتحاد الأوروبي.

يمكننا أن نستمر في ذلك طويلًا. من المغري أن نرى الأمر كسلسلة من الجرائم وفقط، لكنه أكبر من ذلك بكثير، هذه المقتطفات تطلعنا على محيط النظام الاقتصادي العالمي الذي تم هندسته بعناية منذ مئات الأعوام؛ لإثراء قلة قليلة من البشر، على حساب الأغلبية الساحقة.

التاريخ يرينا أن حديث هذه المؤسسات عن التنمية الدولية يتسم بالسخف، إن لم يكن خاطئًا تمامًا. لقد كان فرانكي بويل محقًا في قوله:

“حتى ما نفعله من خير يتسّم بالمنّة، أعطِ رجلًا سمكة وسيشبع يومًا، علّمه كيف يصطاد وسيشبع دهرًا. لكن لا تسمّم الأسماك وتختطف أسلافه وتستعبدهم، ثم تأتي بعد 400 عام لتقول بعض الهراء عن الصيد”.

لا يمكننا أن نثمن الاستعمار، أموال العالم لا تكفي لتعويض الضرر الذي تسببت فيه العمليات الاستعمارية، لكن ما يمكننا فعله هو التوقف عن الحديث عن “الدعم” و”الأعمال الخيرية، وأن نعترف بالدين الذي يدين به الغرب للعالم، والأهم، أن نعمل على تحطيم الغريزة الاستعمارية كلما أطلت برأسها القبيح، كما تفعل الآن في صورة الاستيلاء على الأراضي، والصفقات التجارية غير العادلة.

طالب شاشي ثارور بتعويضات تبلغ يورو واحد فقط، كرمزٍ للاعتراف بالحقائق التاريخية. لن يفعل ذلك اليورو شيئًا بالتأكيد حيال المعاناة المستمرة للدول التي أنهكها الاستعمار. لكنه على الأقل سيجعل القصة تُروى بالطريقة الصحيحة، ويضعنا على درب إعادة التوازن المفقود في النظام الاقتصادي العالمي.

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق