حول الكتاب
لقد أدرك ماركيوز أن جوهر الهيجلية هو التفكير النقدي أو السلبي ـ وفقاً لماركيوز. وبالنسبة إلى هذا التفكير السلبي فإن الواقع دائماً ناقصاً ولا يعبّر عن حقيقته وبذلك تصير الهيجلية سيرورة دائمة من التحولات والتغييرات التي تطمح للتعبير عن حقيقتها، أي إلى إكمال هذا النقص. وهذا يعني أن الحقيقة لا توجد في الواقع وإنما في مفهومه، أي في الفكر. وبما أن هيجل يرى أن الفكر والوجود هوية واحدة كما رأينا فيصير بذلك مفهوم الواقع هو ماهيته. وأعتقد أن هذا ما تعنيه عبارة هيجل الشهيرة بأن المعقول هو الواقع والواقع هو المعقول. إذ أن المفهوم معقول والماهية حقيقة الواقع. ونستنتج من كل ذلك أن هذه الحقيقة التي يطمح الواقع في تحولاته إلى تحقيقها هي الكل أو هي هوية الأنطولوجيا والعقل.
وبناءً على هذا الاستيعاب للهيجلية الذي يركز على جانبها الديالكتيكي ويهمل جانبها المثالي أمكن تحويلها إلى مشروع ثوري فقط باستبدال الأنطولوجيا بالوجود الاجتماعي، وهذا ما فعله ماركس ولكن بتطرف أدى إلى إقصاء العقل وتحول الوجود الإجتماعي إلى طبيعة ثانية أو إذا شئت إلى أنطولوجيا ثانية ولكن بدون عقل فصار الأمر مادياً صرفاً. وما فعله ماركيوز هو أنه أعاد قراءة هيجل ماركسياً ليخلص هيجل من مثاليته وليخلص ماركس من وضعيته وذلك باستبدال الأنطولوجيا بالوجود الاجتماعي كما فعل ماركس ولكن مع الحفاظ على العقل. وهذا هو معنى قراءة هيجل قراءة ماركسية فهي قراءة لا تحافظ على هيجل كما هو ولكنها وفي ذات الوقت لا تحافظ على ماركس أيضاً كما هو. هذه القراءة التي قام بها ماركيوز أفضت إلى أن يصير العقل والوجود الاجتماعي هوية واحدة وهو ما يشكل جذر التفكير النقدي عنده ويكسب نظريته الاجتماعية طابعها الثوري. ولذلك فإن عنوان الكتاب الذي قام فيه بهذه القراءة هو أفضل ما يعبّر عن هذا المعنى "العقل والثورة".
ومن هذا الموقع النظري أعاد ماركيوز الاعتبار للفلسفة الألمانية بوصفها نظرية الثورة الفرنسية. فالثورة الفرنسية، كما رأتها المثالية الألمانية، حررت الفرد وجعلته سيداً على حياته بحيث لم يعد مركز الإنسان في العالم وعمله وطريقة استمتاعه بأوقات فراغه تعتمد على سلطة خارجية، بل أصبحت تعتمد على نشاطه العقلي الحر. وأصبح صراعه مع الطبيعة يحكمه تقدمه في المعرفة وتنظيمه الاجتماعي، وصار العالم نظاماً عقلياً. هذا العقل يحتل موقعاً مركزياً في فلسفة هيجل ـ قمة هرم المثالية الألمانية ـ فالتفكير الفلسفي يفترضه، والتاريخ يبحث فيه وحده، والدولة هي تحقق هذا العقل. إن فكرة هيجل عن العقل ظلت تحتفظ بالأماني المادية في تحقيق نظام عقلي حر للحياة. وهكذا نجد أن ما انجزته الثورة الفرنسية على أرض الواقع حققته المثالية الألمانية على مستوى الفكر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق