الإنسان كاذب منذ البدء


مكانة الكذب في الحياة البشرية غريبة ومدهشة؛  فقواعد الأخلاق الدينية - على الأقل في ما يتعلق بالديانات الكونية الكبرى، خاصة منها تلك المنحدرة من الديانة التوحيدية الإنجيلية- تـُدِينُ الكذب إدانة صارمة ومطلقة. وهذا أمر مفهوم على أيّ حال: إذ لما كان إله هذه الديانات إله النور والوجود، فإنّ ذلك ينتج عنه بالضرورة أنّه أيضاً إله الحقيقة. فالكذب، أي قول ما ليس موجوداً، وتشويه الحقيقة وإخفاؤها، هو إذن خطيئة، بل إنّه خطيئة فادحة جداً؛ إنّه خطيئة الغرور والكبر، وخطيئة ضد العقل والروح، إنّه خطيئة تبعدنا عن الله وتجعلنا معارضين له. إنّ كلام إنسان عادل، وكذلك كلام الله، لا يمكن ولا ينبغي أن يكونا إلا كلام الحقيقة.
ولم يكذب الناس بالقدر الذي يكذبون به اليوم، فثمة يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة ودقيقة بعد دقيقة سيول غزيرة من الكذب تنهمر على العالم. لقد سُخّر لخدمة الكذب الكلام والكتاب والجريدة والمذياع... سُخّر له التقدم التكنولوجي برمّته. وصار الإنسان في العصر الحديث- وهنا أيضاً يتجه فكرنا إلى الإنسان الكلياني totalitaire- يسبح في بحر من الكذب، ويتنفس الكذب، ويخضع للكذب في كلّ لحظات حياته.
انطلاقا من مبدأ أن للكذب تاريخاً، يسعى الباحث الحسين سحبان في ترجمته إلى نص "الوظيفة السياسيّة للكذب الحديث" لكاتبه الفرنسي ألكسندر كويري، والذي نشر على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، إلى القيام ببعض التأملات حول الكذب الحديث، وعلى نحو أضيق وأخص، الكذب السياسي في العصر الراهن. إذ بالرغم من الانتقادات التي سوف توجه إلينا، أو تلك التي نوجهها لأنفسنا، فإنّنا نظل مقتنعين بأنّ العصر الراهن، أو بعبارة أدق الأنظمة الكليانية totalitaires، قد جددت تجديداً قوياً في هذا المجال على نحو لم يسبق له وجود في العصر القديم، وبالتالي فالباحث الحسين لا يهمه إجراء تحليل فينومينولوجي للكذب، ولا بدراسة المكانة التي يحتلها في بنية الكائن البشري.  
المؤكد كذلك أنّ الكذب السياسي وجد في كلّ الأزمنة، وأنّ قواعد وتقنيات ما كان يسمى في الماضي "ديماغوجيا"، ويُسمّى اليوم "بروباغاندا"، قد نُظمت ودُوّنت منذ آلاف السنين، وأنّ منتوجات هذه التقنيات في دعاية الإمبراطوريات المنسية والمندثرة ما تزال تخاطبنا من أعلى جدران الكرنك وأحجار أنقرة.
قليلاً ما يرتبك  ممثلو الأنظمة الكليانية أو يتحيروا في شأن الحقيقة الموضوعية في منشوراتهم (حتى تلك التي تدّعي أنّها موضوعية) وخطبهم ودعاياتهم. وإذ يعدّون أنفسهم أقوى من الله نفسه، فهم معروفون بتغيير حقائق الواقع كما يحلو لهم، بل يحولون حتى الماضي. وكما حصل في بعض المرات، يمكن أن نستخلص من ذلك أنّ الأنظمة الكليانية تقع في ما وراء الحقيقة والكذب، وبهذا يظل التمييز بين الحقيقة والكذب وبين الخيالي والواقعي صالحاً حتى في تصورات الأنظمة الكليانية نفسها.  وكلّ ما في الأمر أنّ موقعيهما معكوسان: إذ تتأسس هذه الأنظمة على صدارة الكذب وسيادته.
وقد لاحظ الباحث  حسين سحبان ، بناء على مبدأ ليس هناك إذن، في الحالة العامة، إلزام أخلاقي بقول الحقيقة لجميع الناس. وليس لجميع الناس الحق في أن يطالبونا بأن نقول لهم الحقيقة أنّ الكذب يتساهل في شأنه حين لا يُضِر بالسير الحسن للعلاقات المجتمعية، حين "لا يؤذي أي أحد من الناس"، أن الأنثربولوجيا الكليانية تبيح الكذب طالما لم يفصم الرابطة المجتمعية التي توحد المجموعة، أي طالما يمارس خارج دائرة المجموعة، والـ "نحن"، وليس داخلها: لا يخدع المرء "أهله". أما الآخرون... فيجوز خداعهم، أليسوا، على وجه التحديد، "آخرين"؟، فنحن ندين بالحقيقة لمن نقدرهم، ولرؤسائنا.
إجمالا إذا كان يمكن اعتبار نجاح مؤامرة الاستبداديين الكليانيين، بمثابة حجة تجريبية على [صحة] مذهبهم الأنثروبولوجي، وعلى النجاعة التامة لمناهج التعليم والتربية المبنية على هذا المذهب، فإنّ هذه الحجّة لا تصلح إلا بالنسبة إلى بلدانهم وشعوبهم. إنّها لا تصلح بالنسبة إلى الآخرين، لا تصلح للبلدان الديمقراطية التي جعلها إصرارها المستمر على عدم التيقن السريع مستعصية على التأثر بالدعاية الاستبدادية الكليانية: ذلك لأنّ هذه الدعاية في هذه البلدان، بالرغم من كونها مدعومة بتآمرات محلية، فإنّها لم تستطع في آخر المطاف أن تخدع سوى جزء محدود من الـ"النخبة الاجتماعية المزعومة". وهكذا فإنّ الجماهير الشعبية في البلدان الديمقراطية، التي يزعم أنّها انحطت وتهجنت، إنّ هذه الشعوب هي التي انكشف ـ في مفارقة أخيرة ما هي بمفارقة ـ أنّها وفقاً لمبادئ الأنثروبولوجيا الكليانية نفسها منتمية إلى صنف البشرية الأعلى، ومكونة من أناس يفكرون، وتبيّن، على العكس من ذلك، أنّ الأرستقراطيات الاستبدادية الكليانية المزيفة هي التي تشكل صنف البشرية المنحط، صنف الإنسان الساذج الذي لا يفكر.
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق