نقد الخطاب السلفي: ابن تيمية نموذجاً - رائد السمهوري


حول الكتاب

في مراجعة جريئة لتراث ابن تيمية تخالف كثيراً من الأطروحات، التي عادةً ما تتسم بشيء من التعظيم والإعجاب، يقدم هذا البحث قراءة مغايرة لفكر وأطروحات ابن تيمية تميل إلى تحميله عبئاً ليس بالقليل مما وصلت إليه حالة الفكر الإسلامي من الانسداد والعجز عن إعادة بعث الحالة الحضارية للأمة التي تخلفت، بسبب ما نخر في فكرها من عقائد وجدليات فكرية، أصابتها بالشلل الحضاري أو التصادم السلوكي مع (الآخر) نتيجة ترسبات فكرية وعقدية تناقلتها الأجيال دون تمحيص ومراجعة. 

ولم يخف الباحث في الفكر الإسلامي، رائد السمهوري، أن ما دفعه إلى قراءة كتب ابن تيمية ـ كاملة ـ ومن ثم تأليف كتاب حول آرائه هو مناقشاته ـ الحادة أحياناً ـ مع بعض الباحثين والمتخصصين في الشريعة المتعصبين لفكر ابن تيمية، حيث إنهم كما يذكر في مقدمة كتابه دائماً ما يؤيدون آراءهم بأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضوعات عدة، سيما مسألة التعامل مع المخالف. 

وجمع السمهوري نصوصاً عدة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، ولأنه يعتقد أن شيخ الإسلام ذو تأثير كبير على (الصحوة الإسلامية) بتياراتها المختلفة، وخاصة التيار السلفي، فقد سمى كتابه (نقد الخطاب السلفي..ابن تيمية نموذجاً)، الذي جاء في أكثر من (500) صفحة. 

واستدرك المؤلف في مقدمته على مصطلح (السلف الصالح)، حيث أشار أنه لا يخلو من إشكال؛ حيث إن لكل طائفة من المسلمين (سلفاً) ترى أنه (سلفها الصالح)، في حين ترى غيرها من (المبتدع المخالف)، واستنكر بسؤال: لماذا كان ما ترويه تلك الفئة بعينها من العقائد هو العقيدة الصحيحة دون ما ترويه ـ في العقائد أيضاً ـ الفئات الأخرى المعاصرة لتلك الفئة؟! 

يبدأ الباحث مؤلَّفه ـ الصادر عن دار طوى ـ بالقسم الأول المعنون بـ(موقف ابن تيمية من الآخر)، ويذكر أنه بعد أحداث عنف دامية شهدتها بعض البلدان الغربية على أيدي ما يسمى (الجماعات الإرهابية)، حصلت بين المهتمين والباحثين نقاشات حول تلك الأحداث التي كان يبررها البعض، ويستشهد لها من أقوال ابن تيمية، مما حفّز للقراءة والبحث أكثر في كتب ابن تيمية ومعرفة كيف تعامل ابن تيمية مع (الآخر). 

ويقول المؤلف إنه لم يفعل أكثر من استنطاق شيخ الإسلام وتقديمه، كما هو، بحلوه ومره، بقسوته ولينه، بعقلانيته وتهوره، بانسجامه وتناقضه، مؤكداً أن شيخ الإسلام إنسان يخطئ ويصيب شأنه شأن غيره من المصلحين الكبار ملتمساً العذر له كون الجو الثقافي الذي نشأ فيه كان زمناً حافلاً بالتناقضات. 

في الفصل الأول من هذا القسم، يسوق المؤلف أقوالاً عديدة لشيخ الإسلام، تعبر عن وجهة نظره في غير المسلم، ومن هو الكافر؟ وتصنيف الكفار في بلوغهم الرسالة: المكذب، والمتردد بحثاً عن الحقيقة أو عن هوى، والغافل سواءً بلغته أم لم تبلغه. 

وكل هؤلاء يدخلون في مسمى الكافر الذي تجري عليه أحكام الكفر، أما العقوبة الأخروية، فهي لمن بلغته الرسالة. ونقل كلام ابن تيمية في أن الكفار الحربيين منهم وغير الحربيين، لا يملكون أموالهم ملكاً شرعياً ولا يحق لهم التصرف فيما بين أيديهم، إلى غير ذلك من نصوص تجيز لعن اليهود والنصارى وأديانهم وإذلالهم. 

وخصص الباحث الفصل الثاني لقراءة نصوص ابن تيمية في تعامله مع (الآخر المسلم)، أو من اصطلح على تسميتهم (أهل الأهواء والبدع)، وقد ذكر الباحث جملة من القواعد التي نهجها ابن تيمية في تعامله مع المسلم المخالف أهمها: الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة والاختلاف، واعتبار تكفير الطائفة لغيرها من المسلمين بدعة منكرة، وأن المتأول ـ مبتدعاً أو مرتكباً للكبيرة ـ يعذر بالجهل، وأن لا يكفر أو يفسق حتى تقام عليه الحجة، كما كان من منهجه التفريق بين تكفير وتفسيق المطلق والمعين. 

كما ذكر الباحث قواعد تعامل ابن تيمية مع المبتدع المتأول الذي أراد الحق فأخطأه، ومنها: قبول ظاهره والبعد عن امتحانه، ووجوب الإنكار عليه وعقوبته إذا أعلن بدعته. 

وتناول في الفصل الثالث نصوص ابن تيمية في المرأة من مثل قوله: "المرأة كاللحم على وضم"، كناية عن الغاية القصوى من الضعف، إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بتعليم المرأة ومقارنتها بالعبد المملوك في ببعض الأحكام. 

وعلى نفس المنوال، يفصل الباحث في الفصلين الرابع والخامس موقف ابن تيمية من غير العرب، وموقفه من علماء الطبيعة والرياضيات والكيمياء التي يعتبرها ابن تيمية مضاهاة لخلق الله. 

أما القسم الثاني، فيخصصه لقواعد ابن تيمية في التوحيد وجهوده في نقض مقدمات المتكلمين ويذكر من القواعد: معرفة الله ضرورة بالفطرةن ويبين الباحث ما يسميه (اضطرابات) ابن تيمية في تعريفاتها، كما يذكر من القواعد: وجوب الأخذ بظاهر النص دون تأويل، ويناقش معاني التأويل عند شيخ الإسلام ونفيه للمجاز في القرآن، والاكتفاء بما في النص القرآني من حجج وأقيسة. 

وخصص المؤلف القسم الثالث من مؤلَّفه لموضوع القدر في فكر ابن تيمية، ونقد في مقدمته حالة الفصل بين المقدمات ونتائجها والعلل ومعلولاتها التي كرسها الفكر الجبري متسترة خلف بعض مقولات التسليم بأقدار الله من مثل (يفعل في ملكه ما يشاء)، و(لا يكون في ملكه إلا ما يريد)، والتي تتعارض في رأيه مع قيم الفاعلية والعمل والانطلاقة الحضارية،... وغيرها من متطلبات الفعل النهضوي. 

ووصف هذا الفكر بأنه حالة عقلية لا ترى في الكون ارتباطاً محكماً بين المقدمات والنتائج، مما يؤدي إلى تعطيل السنن الربانية الذي بالنتيجة يكرس الفكر الخوارقي. ونبه إلى أن مثل هذا الفكر ظاهره (الإجلال والتنزيه) وباطنه (الإساءة والقدح) للأقدار التي هي في حقيقتها مفعولات لله. 

وذكر مسائل من مثل: هل الأسباب مؤثرة في المسببات؟ وأورد مذاهب المتكلمين كما أوردها ابن تيمية في كتبه ثم يذكر رأي ابن تيمية الذي يقول بأن الله، سبحانه، "خالق الأسباب والمسببات وأن هذه الأسباب مؤثرة، كما هو مذهب المعتزلة، ولكنها ليست مؤثرة بنفسها بل هي مجرد وسائط يفعل الله بها مفعولاته أي أن لكل فعل سبب بعينه، وهو بذلك يختلف عن المعتزلة الذين يجعلون الأسباب مؤثرة وفق سنن الله بشكل جار على قانون ينتظمها في كل الأفعال. 

ومن المسائل التي ناقش فيها المؤلف آراء ابن تيمية فيها مسألة "أفعال العباد بين التسيير والتخيير"، وفحوى منهج ابن تيمية فيها أن فعل الإنسان إنما هو مفعول لله تعالى أقامه في الإنسان، وأن الله استعمل القدرة الإنسانية ليخلق بها هذا الفعل الإنساني؛ فالقدرة الإنسانية هي سبب وواسطة في خلق الفعل، كما خلق الله النبات بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب! 

ومقتضى هذا الكلام، كما يرى المؤلف، أن الكفر مثلاً أو الزنا أو أكل الربا، فعل خلقه الله في العبد بواسطة قدرة العبد، وبهذه القدرة خلق الله الكفر والعناد وغيرهما من المعاصي في قلبه وعلى جوارحه، ثم سيضعه في نار جهنم يوم القيامة على أساس أن هذا الفعل هو فعل العبد لا لأن العبد هو فاعله وموجده حقيقة، ولكن لأن هذا الفعل قام بالعبد كما يقوم "السواد بالأسود والبياض بالأبيض"، والنتيجة أن الله هو الذي خلق الكفر في العبد بواسطة قدرته المحدثة، وأن العبد ليس مؤثراً في أفعاله باستقلال كما أنه ليس مؤثراً في أفعاله تلك بمعاونة ومشاركة بل التأثير إنما هو لله. 

ثم يذكر المؤلف أنه لا خلاف في أن الله تعالى خلق العبد قادراً ومريداً، بمعنى أن له قدرة محايدة وأن له الحق في أن يختار هذا الفعل الحسن أو ذاك الفعل السيء ولكن خلاف الباحث مع ـ شيخ الإسلام وغيره ـ هل أراد الله لهذا العبد، قدراً وتكويناً، أن يفعل هذا الفعل الحرام بعينه؟ وهل الله هو الذي خلق حركة هذا الفعل الحرام على جسده وفي ذهنه؟ هل الله هو خالق هذه الأشياء؟ 

وللتقريب يذكر الباحث مثلاً: هل الذي يصنع السكين هو الذي قتل بها؟ فإذا خلق الله الإنسان قادراً، فهل معنى هذا أن الله هو الذي وجه القدرة ليفعل بها هذا الفعل؟ فالذي صنع السكين وأهداها لأحد الناس وأوصاه أن لا يستعملها إلا في الخير، فاستعملها في قتل الأبرياء، لا يمكننا أن نعد صانع هذه السكين هو الفاعل لتلك الجرائم، وكذلك الحال في مسألة القدرة والإرادة، إذ إن الله أعطى الإنسان القدرة وأعطاه الإرادة، لكن إرادة هذا الشيء المعين هو فعل الإنسان وحده وليس فعل الله تعالى، كما يقول المؤلف؟ 

ويرى المؤلف أن آراء ابن تيمية تلك مهدت للجبرية القدرية، بمعناها الحقيقي التي تعيشه الأمة اليوم، وأنه بمثل هذه العقائد لا يمكن أن تنهض الأمة، وأن تتغير إذا ما استبطنت تلك العقائد الجبرية التي تنفي عن الإنسان حقيقة الفعل والإرادة والتغيير، وتنسب مصائبه وأحواله وتخلفه إلى أقدار الله وإرادته؟ 

وجاء القسم الرابع من الكتاب ـ المطول ـ بعنوان: (قراءة نقدية في كتاب درء تعارض العقل والنقل)، الذي خلص الباحث فيه إلى أن النزاع الحقيقي ليس بين النص والعقل كما صوره شيخ الإسلام ابن تيمية، وإنما هو نزاع بين منظومتين عقليتين: إحداهما تثبت المعنى الظاهر للنص وتقدم الأدلة العقلية لإثبات هذا الظاهر وتلغي ما عداها. والأخرى: تثبت الأدلة العقلية التي تخالف ظاهر النص وتؤل النص إلى معنى من المعاني التي يحتملها ليتفق مع تلك الأدلة على ضوء أساليب العرب وطرائقها في الكلام. 

ولم يخف المؤلف في ختام بحثه أن تراث ابن تيمية تراث ثري وغزير وذو تأثير بالغ على حالة الأمة اليوم، وأن هناك جوانب مازالت بحاجة إلى دراسة وتسليط الأضواء عليها بنظرة حيادية، خاصة نظرية ابن تيمية السياسية، ونظريته في الإصلاح الاجتماعي.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق