«البحث عن الحمض النووي لهتلر في القارة القطبية الجنوبية» ذاك هو العنوان الرئيسي الغريب الذي تضمَّنته الأنباء منذ بضعة أشهر؛ إذ أطلقته وكالة الأنباء الروسية ريا نوفوستي، والْتقطتْه وسائل الإعلام العالمية بعد أن نجح العلماء في الحفر في بحيرة فوستوك في القارة القطبية الجنوبية. وتلك البحيرة — وهي عبارة عن خزان مياه ضخم لم يرَ الشمس منذ أربعة عشر مليون سنة ومدفون تحت مِيلَين من الجليد — هي موضوع مشروع استمرَّ أعوامًا استهدف دراسة مياهها، التي قد تأوي أشكال حياة جديدة على العلم. ولكن ما أثار الانبهار فورًا كان ما بدا إنعاشًا لأسطورة سائدة منذ فترة طويلة مفادها أن أدولف هتلر لم ينتحر في قبوه ببرلين في أبريل ١٩٤٥ وإنما تمكَّن من الفرار على متن غواصة إلى قاعدة سرية في القطب الجنوبي.
وفاةٌ موضع شبهات
بدأت تلك الفكرة تنتشر عقب انتهاء الحرب مباشرةً؛ ففي عام ١٩٥٢، قال الرئيس دوايت دي أيزنهاور: «لم نستطِع إيجاد أي دليل ملموس على وفاة هتلر. فكثير من الناس يعتقدون أن هتلر فرَّ من برلين.» وقد صرَّح المارشال جيورجي جوكوف — أحد كبار قادة جيش ستالين، الذي كانت قواته أول قوات تدخل برلين — بحسمٍ عقب تحقيق مطوَّل عام ١٩٤٥: «لم نجد جثة يمكن أن تُنسَب إلى هتلر.» كما قال توماس جيه دود — رئيس هيئة الادِّعاء الأمريكية في نورمبرج: «لا يمكن لأحد أن يقول إنه مات.» وذكر وزير الخارجية الأسبق جيمي بيرنز في كتابه «بصراحة» أنه التقى — في مؤتمر بوتسدام الذي عقده «الثلاثة الكبار» بعد الحرب — ستالين، الذي «نهض من مقعده، وأتى إليَّ ثم قرع كأسه بكأسي في ود بالغ. فسألته: «مارشال ستالين، ما رأيك في موضوع وفاة هتلر؟» فأجابني ستالين قائلًا: «إنه حي لم يمت؛ لقد هرب إما إلى إسبانيا أو الأرجنتين».»
قبو هتلر في برلين، بعد أن دمَّره الجيش السوفييتي.
فإذا كان عدد كبير جدًّا من الضباط والمجرمين النازيين — مثل أدولف آيشمان أو جوزيف مينجل — قد تمكَّنوا من الهرب دون عوائق من ألمانيا بعد هزيمتها، فما المانع في أن يدبِّر عقل شيطاني مثل عقل هتلر خطة للتظاهر بموته؟ فقد كان من المعروف على كل حال أن هتلر — ككثير من الحكام الدكتاتوريين — كان يستخدم بُدلاء عنه بغية تشتيت الأعداء. فماذا إن كان قد ترك وراءه جثة بديل في برلين بينما فرَّ هو إلى القطب الجنوبي؟
يبدو أنه في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، انجذب الزعماء النازيون — وربما هتلر بدوره — إلى النظريات الزاعمة أن الأرض مجوَّفة من الداخل ويسكنها جنس متفوق. وعلى وجه الخصوص، مثَّلت النظريات الغامضة للسيدة بلافاتسكي مصدر إلهام لجمعية ثول الشهيرة، وهي الجماعة السرية الألمانية اليمينية المتطرفة التي أُعيد تنظيمها فيما بعد وتحوَّلت إلى الحزب النازي. فأقرَّ المنظِّرون المتلهِّفون إلى إظهار تفوق الجنسِ الآريِّ الأفكارَ التاريخية المتعلقة بوجود حضارات متقدمة تعيش في باطن الأرض؛ حيث رأَوْا أن سلف الرايخ انحدروا من تلك السلالات المتفوقة بلا شك.
نازيون في المناطق الجليدية
إننا نفتقر إلى الدليل، ولكن البعض يزعم أن هتلر كان قد أمر بإرسال بعثة استكشافية بهدف البحث عن مدخل إلى باطن الأرض، وأن مكانه تحدَّد في القطب الجنوبي. وقد أشار أدميرال كارل دونيتس إلى هذه المسألة أثناء محاكمة نورمبرج عندما قال: «إن أسطول الغواصات الألماني عاكف الآن على إقامة جنة على الأرض — وقلعة حصينة — للفوهرر، في مكانٍ ما من العالم.» وعلى الرغم من أنه لم يذكر الموقع تحديدًا، فقد ظن كثيرون أنه في القارة القطبية الجنوبية.
وبعد الحرب، زعم إرنست تسوندل المتعاطف مع النازيين أن هتلر تمكَّن من الهرب بصحبة مجموعة من أهل الثقة على متن سفينة دخلوا بها باطن الأرض من فتحة في القطب الجنوبي. وفي جوف الأرض، عكف العلماء النازيون على بناء جيش جديد للسيطرة على العالم؛ جيش يمكنه أن يعتمد على مركبات طائرة مستديرة مبتكرة؛ أي أطباق طائرة.
كان ذلك خيالًا جامحًا تبخَّر — بعد مرور خمسة وخمسين عامًا على نهاية الصراع — عقب خروج وثائق جهاز المخابرات الروسي إلى العَلَن؛ فقد تبيَّن أن ذلك الدكتاتور قد أنهى حياته بنفسه، وكذلك إيفا براون ومسئول الدعاية موضع الثقة جوزيف جوبلز. وتنفيذًا لأوامر هتلر، أُحرِقت الجثث؛ فعندما وصل الجيش السوفييتي وجد البقايا المتفحمة ولم يستطِعْ التعرف على أصحابها. وفيما بعدُ فحص الخبراء الجنائيون الجثث التي سرقها الجنود، ومن ثَمَّ تأكدت هُويَّتهم الحقيقية، ثم دُفِنت الجثث. وفي عام ١٩٧٠ أمر بريجنيف بنَبْش القبور وإحراق الرفات وبعثرة رماده في مياه نهر إلبه، منعًا لاتخاذ المتعصبين القبور مزارًا.
الأساطير لا تموت
إذا كان كل ذلك جليًّا، فلماذا لا يزال من الممكن أن يحتل زعْم احتمال هروب هتلر الصفحاتِ الأولى في الصحف؟ هذا لأن الأساطير الحضرية لا تموت أبدًا، ومع ظهور الاكتشافات الجديدة المتعلقة ببحيرة فوستوك، أزال أحدهم الغبار عن قصة منسية؛ فالبعض يزعم أنه وفقًا لسجلات البحرية الألمانية، وصلت غواصة من طراز يو ٥٣٠ من كيل إلى القارة القطبية الجنوبية، بعد شهور من استسلام النازيين للحلفاء عام ١٩٤٥. وهناك لم يشيِّد طاقم الغواصة قلعة للفوهرر، وإنما ربما يكونون قد أخفَوْا داخل كهف جليدي بعضَ الصناديق التي تحتوي على آثار من الرايخ الثالث، بل وربما عينات من الحمض النووي لهتلر وإيفا براون بغرض الاستنساخ. وعندما أتمَّ البحَّارة مهمتهم، وصلوا إلى الأرجنتين وسلموا أنفسهم لسلطات مدينة مار ديل بلاتا.
بَيْدَ أنه على الرغم من عناوين الإثارة التي ترد في بعض الصحف، يبدو مستبعدًا للغاية أن نقرأ عما قريب عن العثور على مثل ذلك الكهف وما به من صناديق في بحيرة فوستوك. لا شك أن ذلك الصمت سيقدم مزيدًا من الأدلة على وجود تلك الآثار بالفعل، على الأقل بالنسبة إلى محبي رؤية المؤامرات في كل مكان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق