حول الكتاب
هذا كتاب يُذكرنا بكتاب "سؤال العمل: بحث عن الأصول العلمية في الفكر والعلم" [2012]، لأنه يتضمن أيضاً مجموعة من دراسات ومحاضرات المؤلف، تقدم له عينة مختارة من المشروع الفكري للمؤلف، وتكشف عن التطورات التي عرفها خلال ثلاثة عقود مضت.
نحن في ضيافة طبق علمي شهي ونافع، يحمل عنوان "سؤال المنهج: في أُفُق التأسيس لأنموذجٍ فكريٍّ جديدٍ"، للفيلسوف المُجدّد طه عبد الرحمن، وصدر في غضون يناير الماضي عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط 1، يناير 2015، وجاء العمل في 279 صفحة، مع تقديم حرّره الباحث رضوان مرحوم، أحد أبرز مُتتبعي أعمال فيلسوف الأخلاق طه عبد الرحمن. [يكفي الاطلاع على لائحة عناوين المؤلفات والدراسات المُخصّصة لمشروع طه عبد الرحمن، كما أشار إليها الباحث في مقدمة الكتاب [ص 14 ـ 15 ـ 16] حتى يتأكد القارئ (ة) من هذا المُعطى].
وعلى غرار كتاب "سؤال العمل"، القارئ غير مضطر بضرورة الالتزام بهذا الترتيب الذي جاء في الكتاب في معرض قراءته، ما دام يتضمن تجميعاً لمجموعة دراسات ومحاضرات، لولا أنه يتميز بثلاثة مُميزات:
1 ـ هناك أولاً الإشارة أو ما يُشبه الإعلان عن تأسيس "مدرسة الرباط"، وهي مدرسة أصبحت اليوم رائدة في الدراسات الفلسفية، يقودها طه عبد الرحمن، وتضم العديد من الأسماء العلمية، في المغرب والجزائر وتونس، على الخصوص، وأيضاً في بعض الدول العربية المشرقية (توقف الباحث رضوان مرحوم عند بعض معالم هذه الدراسة، في مقدمة العمل، ص 13، على أمل أن نتطرق للموضوع لاحقاً، بحول الله).
2 ـ هناك ثانياً، تمرير ما يُشبه تصنيفاً إجرائياً لأعمال طه عبد الرحمن ــ وعددها 20 عملاً بالتمام والكمال، في انتظار صدور باقي الأعمال بحول الله ــ وجاءت في آخر الكتاب، حيث نقرأ اجتهاد الباحث رضوان مرحوم في تصنيف مُجمل هذه الأعمال وتوزيعها على خمسة محاور/ مجالات، جاءت كالتالي: مدخل عام للمشروع (وتضمن "حوارات من أجل المستقبل" و"الحوار أُفقاً للفكر")؛ مجال "مناهج المنطق" ("المنطق والنحو الصوري، رسالة في منطق الاستدلال الحِجاجي والطبيعي ونماذجه" (بالفرنسية) [Essai sur les logiques des raisonnements argumentatifs et naturels]، وهو كتاب لم يُنشر بعد؛ "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"؛ "سؤال المنهج: في أُفُق التأسيس لأنموذجٍ فكريٍّ جديدٍ")؛ مجال "تكامل التراث" ("في أصول الحوار وتجديد علم الكلام"؛ "تجديد المنهج في تقويم التراث")؛ مجال "فقه الفلسفة" ("اللغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود" (بالفرنسية) [Langage et philosophie, essai sur les structures linguistiques de l’ontologie]؛ "فقه الفلسفة 1: الفلسفة والترجمة"؛ "فقه الفلسفة 2: القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل"؛ "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي")؛ وأخيراً مجال "النقد الأخلاقي وفلسفة الدين" ("العمل الديني وتجديد العقل"؛ "سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية"؛ "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري"؛ "روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"؛ "الحداثة والمقاومة"؛ "سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم"؛ "روح الدين: من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية"؛ "بؤس الدهرانية: النقد الائتماني للفصل بين الأخلاق والدين").
3 ـ نأتي للميزة الثالثة، وتهم صاحب المقدمة، الباحث رضوان مرحوم، الذي اشتهر بمتابعة مشروع طه عبد الرحمن، منذ عقدين ونيف، ولكن في الخفاء، بعيداً عن الأضواء، وطالما استسفر العديد من الباحثين عن أعمال الباحث ذات الصلة بالمنطق والفلسفة، وكان علينا انتظار هذا العمل، لكي نطلع بداية، على هذا التشريف، بأن تُحرّر كلمة، مقدمة لإصدارات من إصدارات فيلسوف مُجدّد، وهذا تشريف لا يمكن أن ينافسه في ذلك، إلا لائحة ضيقة من الأسماء البحثية التي تتابع المشروع منذ عقود، وليس منذ سنوات، قد يكون في مقدمتها، على حد علمنا المتواضع، المنطقي حمو النقاري. (ليس صدفة، أن يتوقف مُحرر مقدمة الكتاب، عند الدور المفصلي الذي قام به حمو النقاري في التعريف والترويج لأعمال طه عبد الرحمن، داخل الحرم الجامعي (ص 21 – 23)، نقول هذا، أخذاً بعين الاعتبار أن هذا الترويج، كان أشبه بمغامرة، أو "مقامرة"، لأن إسم طه عبد الرحمن، كان الرجل محاصراً من طرف العديد من الأساتذة والباحثين، ومن شتى المرجعيات الفكرانية [="الإيديولوجية"]، كما نقرأ في ذات التقديم تأكيداً من الباحث عن قرب صدور بعض الأعمال التي تُعنى بالتعريف والترويج لمشروع طه عبد الرحمن، على غرار السائد منذ عقد تقريباً، هنا أو هناك.
أشرنا في عرض سابق لأحد أعمال حمو النقاري، أن الانخراط في تحرير عرض أو ملخص عمل يُصنف مؤلفه في خانة أهل المنطق، يُعتبر، دون أدنى شك، مغامرة أخلاقية ومنطقية في آن، لولا أن ما يشفع لنا الانخراط في الشق "الأخلاقي" من المغامرة، المساهمة المتواضعة في التعريف بمثل هذه الأعمال التي نحسبُ أنها أعمالاً نافعة، لنا أولاً، وللغير، من باقي المجالات التداولية.
بالعودة إلى ضيف هذا العرض، فقد توزع على ثلاثة أبواب، جاءت عناوينها كالتالي: "المنهجية التكاملية في التراث"؛ "المنهجية التداولية في الفلسفة"؛ و"المنهجية الحِجاجية في المنطق"، وتضمن العمل أيضاً ضميمتان: علم أصول الفقه بين الحداثة والتكاملية والوَسَليَّة؛ مُسَلمات ونتائج النظر التكاملي في التراث حول كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث.
نود التذكير هنا، أن هذا العرض المتواضع في العمل، يندرج في خانة العروض الاستطلاعية وليس التأملية بله النقدية.
نبدأ، إذاً، بمضامين الباب الأول، الذي تضمن ثلاثة فصولاً، كان أولاً تحت عنوان: "كيف نُجدّد النظر في التراث؟، حيث اعتبر المؤلف أن السؤال عن كيفية تجديد النظر في التراث يقتضي الابتداء بإعادة النظر في المفاهيم التي يتضمنها هذا السؤال، حتى نتبين أن معنى تجديد النظر هو أساس إحداث الانقلاب في النظر؛ وإذّاك، تكون الإجابة على هذا السؤال هي أن تجديد النظر في التراث يقتضي إحداث انقلاب في النظر السابق في التراث.
ويُوضح طه في هذا العمل (وبتفصيل أكثر في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث")، كيف أن النظر التكاملي الذي أخذ به يُحقق انقلاباً في النظر السابق، ذلك أنه ينبني على مبادئ وطرق تقابل المبادئ والطرق التي انبنى عليها هذا الأخير؛ حيث تولى النظر القديم الاشتغال بالمضامين مقابل تولي النظر الطاهائي الاشتغال بالآليات، كما استعمل النظر الجديد المناهج المأصولة، في حين استعمل النظر القديم المناهج المنقولة، والتزم النظر القديم بمقتضى العقلانية المجردة، بينما التزم النظر الطاهائي بمقتضى العقلانية العملية، وأخيراً استخرج النظر الطاهائي آليات التكامل بين أجزاء التراث، حيث تولى النظر القديم تفريق هذه الأجزاء تفريقاً، فكان النظر التكاملي، بذلك، تجديداً حقيقياً. [ص 57]
لنعرج، إذن، على أصول هذه النظرة التكاملية في التراث (وهو عنوان محاضرة، ألقاها طه عبد الرحمن، مباشرة بعد صدور كتابه "تجديد المنهج")، ولقارئ أعمال المؤلف، أن يستحضر هذه الأصول الثلاثة، كما جاءت في خاتمة الفصل: "التداول" و"التداخل" و"التقريب"، بخلاف أصول النظرة التجزيئية للتراث (وهي الاستنباط وشرط التقدم وشرط المناسبة)، وفي سياق التعريف بهذه الأصول الثلاثة، نقرأ أن كل أصل منها يتكون بدوره من ثلاثة أركان؛ فأركان التداول هي الاشتغال العقدي والاستعمال اللغوي والإعمال الفكري؛ وأركان التداخل هي التداخل الداخلي والتداخلي الخارجي القريب والتداخل الخارجي البعيد، وأخيراً، أركان التقريب هي التشغيل العقدي والاختصار اللغوي والتهوين المعرفي. (ص 70)
محاضرة أخرى ألقاها المؤلف بعد صدور كتابه "سؤال المنهج"، جاءت تحت عنوان "رؤية عملية لتجديد مقاصد الشريعة"، وهي عنوان الفصل الثالث من الكتاب، وواضح للمطلع على الأعمال البحثية المصنفة في خانة المقاصد، وما أكثرها في المجال التداولي الإسلامي (العربي على وجه الخصوص)، تميز مضامين هذا الفصل مقارنة مع مضامين العديد من هذه الأدبيات، ويكفي، أن نأخذ بعين الاعتبار تبعات التقزيم من الأفق الأخلاقي لهذه المقاصد، كما هو جلّي في بعض هذه الأدبيات، نظرياً، وكما هو قائم على أرض الواقع، عملياً، حتى نأخذ فكرة، ولو عابرة على بعض الاختلافات الجوهرية في تعامل طه عبد الرحمن مع سؤال المقاصد وما حفلت به العديد من أدبيات المقاصد.
في هذا السياق، نورد أهم ما جاء في هذا الفصل، تأسيساً، دائماً، على الخلاصات التجميعية التي جاءت في خاتمته، حيث اعتبر الفيلسوف المُجدّد أن مبحث المقاصد الذي ظل يُعدّ فرعاً من علم أصول الفقه ولو لم يحظ فيه بالاهتمام الذي حظيت به الفروع الأخرى، يحتاج إلى أن نشتغل بتجديده وتطوريه من الوجوه التالية: [نوردها باختصار شديد] 1 ـ أن ننظر إليه على أنه علم الأخلاق الإسلامي [وهذه لوحدة ثورة معرفية في التعامل النظري مع هذا العلم]، وأن نتناول البحث فيه بالمنهجية العلمية التي نتناول بها البحث في المجالات الأخلاقية عموماً؛ 2 ـ أن نجعل هذا العلم الأخلاقي الإسلامي أبواباً ثلاثة أساسية هي نظرية الأفعال ونظرية النيات ونظرية القيم؛ 3 ـ أن نُدرج المباحث الأخرى التي شملها الدرس المقصدي التقليدي ضمن هذه الأبواب الأخلاقية الثلاثة؛ 4 ـ أن نقوم بتصحيح بعض الجوانب في هذا الدرس المقصدي التقليدي التي يبدو أنها لم تلتزم بما تقرر من أصول شرعية في هذا الدرس نفسه، حتى جعلت قيمة الدين منحصرة في أركان الإسلام الخمسة، وجعلت [بيت القصيد] أشبه بالترف السلوكي منه بالضرورة الحياتية؛ [ص94] أن نجتهد في إبراز العلاقات الدقيقة التي تجمع بين الأخلاق والفقه في الشريعة الإسلامية، والتي تجعل الأخلاق أساساً ينبني عليه الفقه، وتجعل الفقه ضابطاً يُوجِّه هذه الأخلاق، تمهيداً لوضع نظرية إسلامية متميزة؛ أن نبيِّن كيف أن الوسطية ليست هي أن نبتغي طريق التساهل في بعض الأحكام الشرعية، إن إلغاء لها أو تقييداً لمجالها أو تخييراً فيها، وإنما هي أن نُحكم الصلة بين طرف الفقه وطرف الأخلاق؛ كما نُبيِّن أن الطرَفية [أو "التطرفية" التي يرفض استعمالها د. طه] ليست هي أن نبتغي طريق التشدد في بعض الأحكام الشرعية، وإنما هي أن نفصل في هذه الأحكام بين مقوِّمها الفقهي ومقوِّها الأخلاقي. [ص 95]
نأتي للباب الثاني: "المنهجية التداولية في الفلسفة"، وافتتح بالفصل الرابع الذي يحمل عنوان: الأصول اللغوية للفلسفة"، ويتضمن هذا الفصل عرضاً مركزاً لبعض النتائج التي توصل إليه الأستاذ طه في كتابه "اللغة والفرنسية" (بالفرنسية) والصادر في غضون 1979.
توقف الباحث رضوان مرحوم في مقدمة الكتاب عند الفكرة المحورية لكتاب "اللغة والفلسفة"، معتبراً أن العمل يتمحور حول إشكالية الكينونة، ويجتهد في فحص الشروط اللغوية للإثباتات الأنطولوجية (أو الكيانية) كما طرحت في كل من الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية. ويضيف مرحوم [بيت قصيد هام جداً] أننا إزاء المؤلف العربي الأول الذي كان له قصب السبق في الاستفادة من الدرس اللغوي الذي تقدمه فلسفة اللغة في تحليل القضايا الفلسفية. حيث يدافع د. طه فيه عن دعوة النسبية اللغوية، ذلك أن كل لسان طبيعي يختص بقدرات على التفلسف مطوية فيه تحتاج إلى عقول واسعة تخرجها إلى حيز التحقق الفعلي، وبالتالي فلا تفاضل بين الألسن، وليست هناك لغة أقدر على أداء معاني الفلسفة أكثر من غيرها. [ص 26 من مقدمة الكتاب].
في خلاصات هذا الفصل، نقرأ أن الفيلسوف، قبل أن يتجه باجتهاده إلى التوعية بقدرة لغته الفكرية، أن يُميز ما هو من لغته مما ليس منها، أو يتعارض ولغته؛ أي مما قد يحولها من لغة إلى لغو. على الفيلسوف العربي أن يتعاطى تخليصنا من هذا اللغو الذي حال دون تحررنا العقلي، ودون إبداعنا الفكري. [ص 112]
"الأصول اللغوية للمقولات الفلسفية: معالم نظرية في المقولات العربية"، هو عنوان الفصل الخامس، وهو الفصل في الأصل، عبارة عن ترجمة للفصل الأول من الباب الثاني من كتاب Langage et philosophie سالف الذكر، بمعنى إنه يُتمم فيه د. طه ما تقدم عرضه في الفصل حول "الأصول اللغوية للفلسفة".
وخلاصة هذا الفصل، دعوة لكي نسارع إلى استنباط الفكر الفلسفي الذي يكمن وراء صيغ لساننا وتراكيبه العربية كما استنبطت اليونانية والألمانية على حد تعبير هيدغر فلسفتها العميقة، مضيفاً أنه ما دام التفكير الفلسفي يستمد طبيعته أو، على الأقل، عمقه من الأصول اللغوية، ومادامت هذه الأصول تختلف باختلاف مقومات كل لسان، فلم يعد إمكان التفلسف منحصراً في الألسن التي استطاعت تاريخياً أن تعي قدرتها التفكيرية، وأن تثبت لنفسها رؤية فلسفية خاصة بها اعتنقها الفكر العلمي، بل إن إمكان التفلسف يفرض نفسه، كلما توفرت شروط التداول الضرورية لكل لغة، أياً كانت درجةُ تماثل اللغات التي لم تحقق فلسفاتها، أو درجة تفاضلها مع تلك التي انكشفت انكشافاً فكرياً. [ص 124]
خُصِّص الفصل السادس لموضوع "أسطورة الفلسفة الخالصة"، ويُقصد بالفلسفة الخالصة المفهوم المثالي والشائع للفلسفة، أي المفهوم الذي يجعل منها معرفة تتصف بخصائص عقلية مُحدّدة. وتفرع هذا الفصل على أربعة محاور، جاءت عناوينها كالتالي: الفلسفة الخالصة والتطابق (وتضمن العناوين الفرعية الآتية: خصائص الخالصة والتطابق، أسباب الخلوص الفلسفي)؛ سمات الفلسفة التطابقية (إبطال الفلسفة الخالصة، إبطال المعتقد الخاص وإقرار العقلانية المؤسَّعة)؛ سمات الفلسفة غير التطابقية (حدود المنطق غير الاتساقي، الاعتراض على مبدإ عدم الابتذال، )؛ وأخيراً، سمات الفلسفة المتقلبة (التكاثر، التكامل، التصاوب).
نأتي للفصل الذي ستكون مضامينه، محور كتاب "العمل الديني وتجديد العقلّ، [1989]، والحديث عن الفصل السابع الذي يحمل عنوان: "أعقلانية أم عقلانيات: مقاربة التعقل من وجهة نظر فلسفية عربية"، وبرأي مُحرر مقدمة الكتاب، الباحث رضوان مرحوم، فإن هذا الفصل بالذات، يُعتبر منعطفاً حاسماً في مسار تصور الوعي الفلسفي العربي المعاصر لمسألة العقلانية، وهو على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لفكر أستاذنا د. طه، ونظرته للمعقول وصلته باللامعقول مقارنة بما هو متداول في الساحة الثقافية العربية من رؤى وتصورات. وعلى الرغم من بعض الإشارات الموجودة في كتاب "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" (1987)، حول الاشتغال العقلي الذي ميّز الممارسة الفكرية للنظار المسلمين في علم الكلام (ص 145 ـ 158)، إلا أن الأصول العامة لنظرية العقلاني التكاملية نجدها كاملة المعالم في هذه المحاضرة/ الفصل. [هامش ص 154].
مُهم الاستشهاد في هذا السياق، بما افتتح به طه عبد الرحمن هذا الفصل/ المحاضرة، عندما توقف عند مبدأين أصليين يستند إليهما عموم إنتاجه الفلسفي، وهما كالتالي:
أ ــ أحدهما، مبدأ اعتبار جانب اللغة في تشكيل المعنى؛ ب ــ والثاني، مبدأ الأخذ بأدوات المنطق في البحث الفلسفي، ويُؤسس طه هذه المحاضرة المرجعية على الدعوى التالية: العقلانية بالمعنى المتعارف ليست إلا وجهاً من الوجوه الممكنة للعقل الإنساني، ولا تختص إلا بمستوى أدنى وأفقر من هذا العقل ينبغي تجاوزه إلى مستويات أخرى أعلى وأغنى [نحن إزاء الدعوى التي ستزلزل لاحقاً معالم التداول العربي الإسلامي لمفاهيم العقل والعقلانية].
بالعروج على خاتمة الفصل، (ذات العلاقة طبعاً بمقتضى الدعوى سالفة الذكر)، يرى طه عبد الرحمن أن التعقل مراتب ثلاث متفاضلة ومتكاملة: عقل يختص بالاعتقاد، ومعاقلة تختص بالعمل، وتعاقل يختص بالتجربة، فيكون الاعتقاد معقولاً إن كان مبنياً على الدليل، ويكون العمل معقولاً إن كان موجهاً إلى هدف، وتكون التجربة معقولة إن وقع التحقق بها [ص 167].
جاء عنوان الفصل الثامن تحت عنوان: "فصل المقال في ما بين فلسفة البشر وحكمة القرآن من انفصال عند الحكيم بديع الزمان"، وفي هذا الفصل [ص 169 - 189]، سيمسك القارئ (ة) ببعض أسباب الرواج الكبير الذي حظيت به أعمال بديع الزمان، حيث يخلص د. طه إلى أن موقف بديع الزمان من العلاقة بين الفلسفة والحكمة هي أن بديع الزمان انقلب من حال الفيلسوف الذي يوافق فلاسفة الإسلام في القول بين الفلسفة والحكمة، إما وصْل تداخل يجلب الضلالة أو وصْل تصاحب يجلب غضب الله، إلى حال الحكيم الذي يقول بضرورة الفصل بينهما، إما فصلاً استتباعياً يجلب الهداية، فتكون الفلسفة في خدمة الحكمة، أو فصلاً استبدالياً يجلب رضى الله، فتكون الحكمة بديلاً من الفلسفة. [ص 189]، مضيفاً في خاتمة الفصل، أن إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا، حيث آثار الفلسفة الكانطية فعلت فعلتها، وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلاً، ولا هو ينحصر في الأمة الإنسانية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها، وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسره ليُنقذ الإنسان، خاصيَّه وعاميَّه، من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم. [ص 190].
نختتم هذا العرض الاستطلاعي بالتوقف عند عناوين مضامين الباب الثالث من الكتاب، أي الباب الذي جاء عنوان: المنهجية الحِجاجية في المنطق"، وتضمن أربعة فصول، وهي: (الفصل التاسع) من الجدل المحمود إلى علم المناظرة فإلى علم الاعتقاد؛ (الفصل العاشر) مشروعية علم المنطق في التراث الإسلامي؛ (الفصل الحادي عشر) منطق الاستدلال الحِجاجي والطبيعي ونماذجه؛ وأخيرا (الفصل الثاني عشر) أليس رجل القانون محتاجاً إلى تحصيل علم المنطق؟، وفي الفصل الأخير، نعاين بعض الردود على تنافضات الموقف الإنكاري للمنطق، وخصَّ بالذكر ابن تيمية، صاحب "الرد على المنطقيين"، والقانوني المغربي أحمد الخمليشي، مؤلف كتاب "وجهة نظر" (طبعة 1988)، والذي خصّصَ فيه بحثاً لمنهج الفكر القانوني في الفقه الإسلامي، ولم يتردد فيه في الحمل على المنطق.
وأثبت د. طه أن المنطق يفيد القانون من جهة الممارسة التداولية بالنظر في العمليات الفكرية والاستدلالات العقلية التي يحتويها لعمل القانوني، مصنفاً أبوباها ومحدداً ألياتها؛ وأثبت من جانب آخر، أن القانون يفيد المنطق من جهة الممارسة الآلية بإمداده بأساليب الاصطلاح والتقنين والتدليل والتنسيق. [ص 263]
هذا عرض استطلاعي في أحدث مؤلفات الفيلسوف المُجدّد طه عبد الرحمن، لا يحول بالمرة من قراءة عمل، يُعتبر لبنة جديدة من لبنات "مدرسة الرباط" التي تثير الفخر والاعتزار وندعو لها بالتوفيق والسداد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق