القتل باسم الله قبل "داعش" و"بوكو حرام" ومعهما (مقال) - عمار علي حسن


قبل أن تطل علينا "داعش" لقتل على طريقة المغول، باسم الله، قرأت كتاباً مهماً للدبلوماسي الإيطالي مايكل أنجلو ياكوبوتشي، بعنوان "أعداء الحوار"، يتتبع فيه قيم اللاتسامح وأعراضه في الأديان والمذاهب والفلسفات والممارسات البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها. وهو بحث عريض ومطول وعميق يصفه هو قائلاً: "بحثي هذا لا يسعى وراء عرض صنائع السوء، والنفس السوداء لهذا الدين أو ذاك، أو لأيديولوجيا أو لأخرى، أو لعرق أو لآخر، أو لحركة سياسية أو لأخرى، بل إنه يسعى للتأكيد على أننا كلما مددنا أعيننا في الزمان والمكان، أدركنا أنه لا يوجد بشر أو شعوب، فقط من حيث الجوهر، أخيار أو أشرار، وأنه لا توجد عقائد أو أيديولوجيات حسنة تماماً أو سيئة تماماً، بل يوجد فقط أناس على قناعة راسخة بأن بعض الأفكار تمثل الخير المطلق، والأفكار المعارضة تمثل الشر. وهذا يحدث لأن هؤلاء يفسرون بطريقة جامدة، تفتقر إلى الاستناد النقدي للمُثل والنواميس التي انتقلت إليهم من خلال معلمين بارزين، ومن خلال حكمة تكونت عبر آلاف السنين. مُثل ونواميس أصبحت في النهاية سجناً لهم، لا يمكنهم التحرر منه، حتى وإن غيروا الظروف".

ويبدأ ياكوبوتشي باللاتسامح الديني، الذي يعتبره "القتل باسم الرب" ويظهر في الحروب المقدسة والقتل الشعائري والانتحار الجماعي واضطهاد المنشقين، ثم يقول: "إن رحلة بين أعداء الحوار ينبغي أن تبدأ، حتمياً، من الدين. أحد أضخم الموضوعات التي تفرض نفسها في كل حديث عن اللاتسامح، ودائماً تحظى منه بنصيب الأسد". ومن ثم فإن العديد من أشكال التعصب مثل كراهية الأجانب، والعنصرية، والاضطهاد، مرتبطة بالممارسات الدينية في جانب منها، رغم أن مختلف العقائد تحض على التضامن والشفقة، ورغم أن الدين، مهما كان تجسده التاريخي، ثبت أنه منبع لا بديل عنه للرحمة والعدالة.

إن البرهنة على هذه المقولة يمكن أن تعود بنا إلى بدء الخليقة، لنتتبعها في مسيرة التاريخ البشري كله، لكن التقاط بعض الأحداث التي وقعت في العقود الأخيرة يكفي للدلالة على ذلك. فالشاب اليهودي المتطرف إيجال عامير الذي قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين برر ما أقدم عليه بقوله: "لقد أمرني الله بذلك، ولست نادماً" وكان في هذا يمتثل لنصوص عديدة في التوراة والتلمود تحض على القتل. ولم تضع الحرب بين الكاثوليك والبروتسانت في إيرلندا أوزارها إلا قبل سنوات بعد أن أزهقت مئات الآلاف من الأرواح. والخميني كان يرسل الأطفال ليفتحوا حقول الألغام أمام جنود المشاة، وفي أعناقهم مفاتيح الفردوس. والأصوليون الهندوس قاموا بهدم مسجد قديم وتسويته بالأرض مخلفين آلاف القتلى. 

ويعود اللاتسامح الذي تنتجه الممارسات الدينية المجافية لمقاصد الأديان وغاياتها، في نظر ياكوبوتشي إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها: تسييس الدين، وهو بدأ في اتحاد مهام الحاكم والكاهن في شخص واحد أو التحالف بينهما، الذي استمر قرونا عانت فيها شعوب الغرب من تبادل المنافع بين السلطتين الكنسية والزمنية، وتسخير مختلف السلطات للدين بتحويله إلى أيديولوجيا واستغلاله في كسب الشرعية، والتلاعب بالجماهير، ورفع الغطاء عن المعارضين باتهامهم بالرفض أو الهرطقة أو الردة. وثانيها: هو قيام بعض رجال الدين في المسيحية واليهودية، بالحيلولة دون العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، عبر الكهنوت. وقيام بعض علماء الدين ورموزه في الإسلام بمحاولة لعب الدور نفسه، رغم أن إحدى ركائز الإسلام هي عدم وجود أي واسطة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى. أما السبب الثالث، فهو قيام أتباع كل دين برفض "الأغيار" أو أتباع الديانات الأخرى، فاليهودية رفضت المسيحية، والأخيرة ترفض الإسلام، والأخير لا يرفض الاثنين لكنه يعتمد مسارا معينا لهما، انطوى عليها القرآن الكريم، الذي يقول: "لا نفرق بين أحد من رسله".

كما أن أتباع الديانات السماوية الثلاث يرفضون الأديان والمذاهب الوضعية، ويطلقون على أتباعها اسم "الوثنيين". وقد بلغت هذا الرفض ذروته في مصر القديمة، حيث تم هدم معابد المعرفة، وتحويلها عنوة إلى كنائس، علاوة على قتل العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم هياباتيا. وهنا يقول ياكوبوتشي: "بداية من عام 609 م، ومع تكريس البانثيون في روما أثناء بابوية بونيفاتشو الرابع بدأ افتتاح كنائس عديدة فوق المعابد، كنيسة تلو أخرى". ثم يسرد موجات أخرى من التعصب باسم المسيحية، مثل الصراع بين المسيحيين أنفسهم حول الثوابت العقدية، وموضوعات الهرطقة الكبرى، ثم حرب الفرنجة التي رفعت شعار "الصليب"، وبعدها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، والتي تعد أكثر النقاط سواداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وتلاها مطاردة الساحرات، ثم ظهور البروتسانتية التي أدت إلى أن تصير أوروبا مسرحاً لحرب دينية طويلة، أظهر فيها الطرفان أدلة متساوية على البشاعة والغلظة، لم تنته الفصل الأكثر دموية فيها إلا مع صلح وستقاليا عام 1648 الذي أنشأ مجتمعاً دولياً جديداً يقوم على أساس الدولة القومية.

لكن قيام الدولة القومية وانتشار التحديث والحداثة لم يقضيا على الأصولية المسيحية، التي ولدت في الولايات المتحدة، وظلت تترعرع فيها حتى أوصلت أحد رجالها وهو جورج بوش إلى سدة السلطة، والذي سعى إلى تنفيذ أكثر أطروحات الإنجليين تعصباً، باحتلال العراق وأفغانستان، لتعبيد الطريق أمام الحرب الأخيرة التي تشهد عودة المسيح، كما يعتقد هؤلاء.

وجاءت الأصولية الإسلامية لتجنح بعيداً عن تعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة، وتؤمن بحرية الاعتقاد، وتمنع الواسطة بين الإنسان وخالقه. وأخذت هذه الأصولية، لاسيما في شقها السياسي، تنتج خطاباً معادياً للآخر، سواء من بين المسلمين الآخرين، الذين يشكلون التيار العريض والعام من بين شعوب العالم الإسلامي، أو أتباع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى، دعوية كانت أم مسيسة، أو أتباع الديانات الأخرى، وقد وصل الأمر إلى ذروته مع "القاعدة" وبعدها "داعش" و"بوكو حرام" وكلها جماعات إجرامية نازعة إلى السلطة والثروة وتقتل بلا رحمة وباسم الله.

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق