الإعلام كـ "جهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي - محمد عجلان


يأتي التبرير والتضليل فى مقدمة وظائف الأيديولوجيا، بهدف خلق حالة من الوعي الزائف، يتم خلالها قلب حقائق الأشياء ووضعيات الأشخاص، فأحيانا تصور السيد خادما والمسود سيدا؛ مستهدفة بذلك تحقيق مصالح شخص أو فئة معينة. ورغم كل شهادات الوفاة التى تم استخراجها لـ "الأيديولوجيا" وكل ما يقع ضمن ما يطلق عليه السرديات أو الأنساق الكبرى، والتي مررتها أطروحات "أيديولوجية" بالأساس، إلا أن الأيديولوجيا مازالت حاضرة بقوة، مع اختلاف فى التكتيك لا الإستراتيجية. وبما أننا فى سياق العولمة وأيديولوجيتها، فمن الضرورة بمكان إلقاء الضوء على فكرة الخداع وآليات تمريرها وتحديد المنخدع. وقد انطلقنا من حقيقة كون "العولمة" ظاهرة اقتصادية بالأساس، وأن ما بعد الحداثة هي غطاؤها الأيديولوجي بعد استنفاد الحداثة لقدرتها التبريرية؛ نظرا للهجوم الشديد الذي تعرضت له تحت وقع مسلسل الفشل – التطبيقي على الأقل – الذي تعرضت له، فسلّمت راية الأدلجة لما بعد الحداثة.

من المعروف أن الرأسمالية تؤكد على محورية دور الفرد، فى مقابل غيرها من الأيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعي على الفردي، مع العلم أن لكلٍ مغزاه الأيديولوجي وراء عمليتي التقديم والتأخير بين الفردي والجماعي، لكن ما يهمنا هنا هو "الفرد" لدى الرأسمالية بكافة أشكالها – الكلاسيكية، الموجهة، والعولمية – مع الأخذ فى الاعتبار أن السياق الأيديولوجي للرأسمالية اقتضى بعض التحورات فى توصيفه لحقيقة هذا الفرد؛ وذلك وفقا لما يقتضيه الصالح الرأسمالي بالطبع، حيث كان المطلوب فى بداية النشأة، وبموازاة السياق الحداثي، أن يكون الفرد فاعلا منتجا مؤمنا بذاته وبقدراته على قهر الطبيعة والأنظمة الفكرية والسياسية والدينية القروسطية التي تعوق حركته، ولكن بعد أن استقر الوضع للرأسمالية، للدرجة التي دعت البعض إلى اعتبارها نهاية التاريخ، وانقلب الوضع من المشروع الفردي البسيط إلى الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، كان من الضروري أن تتغير تلك النظرة للفرد، حيث أن الفاعل حاليا تجاوز نطاق الفردي بمعناه التقليدي ليتحول إلى الشركات العملاقة لا مجرد المشروعات الصغيرة التي يديرها أفراد متساوون تقريبا، فسعت الرأسمالية إلى تحويل الفرد من وضعه السابق ليلعب دور "المستهلك" لا المنتج أو الفاعل، وضروري لتحوله من إيمانه بقدراته وفعاليته إلى مجرد متلق سلبي أن يتم التحكم به وخداعه من خلال عملية إيهام كبرى، تؤكد على حريته وتعلي راية المساواة، لكنها فى الوقت نفسه – تكاد – تقلص هذه الحرية فى الاختيار بين البضائع والسلع المتاحة فى السوق، واختزال المساواة فى المساواة الاستهلاكية، حيث من حق الجميع أن يستهلك ويستهلك دون حدود.

وبالطبع فإن صناعة الفرد / المستهلك هي ضرورة رأسمالية بالأساس، فمع الطفرة التقنية والمعلوماتية، حدثت حالة من تضخم الإنتاج السلعي – مع التأكيد على أن السلعي أصبح يشمل المادي والثقافي معا – ومن الحتمي أن يكون الاستهلاك على قدر الإنتاج حتى تستمر الدورة الرأسمالية، وإلا تكررت مأساة الكساد الكبير، أو ربما ما هو أكثر، فوفقا للتحليل الماركسي، فإن الرأسمالية معرضة لأزمات دورية بسبب اتساع الشقة بين الإنتاج الضخم وقلة الاستهلاك. ومن هنا بدأ التأكيد على الاستهلاك وتحويله إلى ثقافة، والاختزال التقريبي لمقولات الليبرالية من حرية ومساواة .. الخ فى إطار حرية الاستهلاك والمساواة فيه. وكان الجهاز الأيديولوجي للرأسمالية بشكلها العولمي هو أولا وقبل أي شئ آخر هو الجهاز الإعلامي، حيث يقوم العولميون من خلال امتلاكهم – إن لم يكن احتكارهم – للآلة الإعلامية بكافة صورها، وسيطرتهم على المادة الإعلامية المقدمة للمشاهد، يقومون بالترويج لثقافة الاستهلاك، لدرجة إيهام المشاهد أنه هو من يرغب ويطلب، رغم أن الأمر فى حقيقته هو أن وسائل الإعلام تقوم بصناعة دائمة لرغبات متجددة تستتبع طلبا دائما من قبل الأفراد، مما يدعم شبكة الإنتاج الرأسمالي بكافة صورها.

ومن أوجه الجدة فى الرأسمالية العولمية، أنها قامت بعملية سلعنة لكل شئ، فكل شئ أصبح سلعة قابلة للبيع والشراء، لا فرق فى ذلك بين ثقافي ومادي، وهنا يأت دور ما بعد الحداثة كأيديولوجية للعولمة، حيث أن عرض السلعة ومحاولة إيهام المستهلك أنه بحاجة إليها لن تكون ناجعة على مستوى التسليع الثقافي، حيث أن المُنْتَج الثقافي بطبيعته يحتاج إلى مستهلك من نوع خاص، وهذا – بالطبع- سيقلل من نسبة مستهلكي الثقافة، رغم أن التسليع الثقافي صار ضروريا فى الإنتاج العولمي، وبهذا سوف يتم ضرب عملية الإنتاج العولمي فى عنصر تميزه الإنتاجي الذي تجاوز عبره الإنتاج الرأسمالي بشكله التقليدي. فكان من الضرورة بمكان لمواجهة هذه المعضلة أن يستمر الإنتاج الثقافي ولكن بما يناسب مستوى المستهلك العادي حتى تضمن درجة استهلاكية عالية، وبما أنه من الصعوبة بمكان رفع كفاءة المستهلك لمستوى المنتج الثقافي بشكله التقليدي، وكذلك خطورة ذلك فى الوقت نفسه؛ لأنه سوف يخلق مواطنا غير قابل للتنميط والتلاعب برغباته، ولذلك فإن الحل الأمثل سوف يكون بعملية تهبيط وتدنية مستوى المنتج الثقافي حتى يناسب مستوى المستهلك العادي؛ وبذلك تتحقق فائدتان متلازمتان، الأولى زيادة معدل الاستهلاك، والثانية الاستمرار فى التحكم فى الفرد / المستهلك دون خطورة وعيوية تضرب منظومة التلاعب بأكملها.

ومن هنا جاء دور ما بعد الحداثة فى رفض النخبوية والاحتكار بكافة أشكاله وصنوفه، على اعتبار أن تلك الأفكار من مخلفات عصر الحداثة الذي تم تجاوزه، فأكدت ما بعد الحداثة على أن النخبوية التى اتسمت بها الحداثة تمثل نوعا من الاحتكار المعرفي والثقافي، مطالبة بحق المواطن العادي فى أن ينال حظه فى هذه البضاعة الثقافية، ولن يتم ذلك من خلال تقديم هذا الثقافي فى سموه و علوه كما كان معهودا فى وضعية الثقافي خلال فترة الحداثة، ولكن لابد من تقديم منتج ثقافي يناسب مستوى المواطن كما هو عليه، أي – كما سبق وأشير- سيتم عملية تهبيط وتدنية للثقافي كي يناسب المواطن / المستهلك، ويأتي ذلك من خلال التأكيد على روعة السطحي فى مقابل العميق، أو اعتبار العمق ذاته لا وجود ولا ضرورة له.

ومن بين ما تقوم به أيديولوجية العولمة ممثلة فى ما بعد الحداثة، أنها بتقديمها للسطحي على العميق ورفضها للنخبوية والاحتكار الثقافي، تخلق لدى المواطن / المستهلك حالة من "وهم المعرفة" ووهم الإشباع لرغبات هي بالأساس من صناعة آلتها الإعلامية وليست رغبات حقيقية اقتضتها حاجة الفرد، وبذلك يكون تركيز ما بعد الحداثة على السطحي، من خلال امتداحه وضمه إلى سياق مقولاتها الأساسية، سعيا نحو خداع المستهلك وتوريطه أكثر فى السياق السطحي ما بعد الحداثي. وبذلك يغيب العقل النقدي فى ظل آلة إعلامية ضخمة تعلي من شأن المقولات ما بعد الحداثية – وإن بشكل غير مباشر – حيث تدعو للسطحي وتمجد الاسترخاء، واعدة المستهلك ما بعد الحداثي أن كل شئ سوف يصله حتى باب عقله، إن بقي ثمة عقل بالأساس. وهذا الإلغاء للعقل النقدي والإعلاء من شأن السطحي يسهل مهمة مروجي الثقافة الاستهلاكية الخادمة للشركات العولمية متعدية الجنسيات، والتي أصبح نشاطها يغطي كل شئ تقريبا، بدءا من الغذائي وصولا للمعرفي.


محمد عجلان
باحث مصري
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق