«معجم الوأد» وذكورية الخطاب الثقافي العربي (مقال) - محمد عجلان


يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأ عنوان كتاب " معجم الوأد ، النزعة الذكورية فى المعجم العربى " أن الكتاب هو أحد الكتب المدافعة عن قضية المرأة والداعية إلى تحريرها ، وإن كان هذا صحيحا بالفعل، إلا أن العمود الفقرى للكتاب ليس قضية ذكورية الخطاب الثقافى العربى، بقدر ما هى عملية حفر نقدى فى أسس الثقافة العربية من خلال بحث العلاقة بين الوحدتين الأساسيتين لبناء أى مجتمع الرجل / المرأة، فهذا الالتواء فى العلاقة بين الرجل والمرأة التى أصَّل لها الخطاب المعجمى العربي، هو مجرد مثال للالتواء فى صميم الثقافة العربية، أو بمعنى أصح هو أساس الالتواء العام فى مسار الثقافة العربية .

وصميم ذلك الخطاب الذى حاول "معجم الوأد" تعريته هو الخطاب البدائى البدوى القابع خلف مفردات اللغة، حيث أن اللغة العربية لم تتخلص من بداوتها بعد دخولها أطوار التحضر، بل احتفظت بتلك البداوة وجعلتها معيار الفصاحة، فظلت بذلك حاملة للمضامين الثقافية لمجتمع البداوة، فأصبحت مفردات اللغة غير محايدة، بل معبأة بمخزون ثقافى بدوى، تحول من كينونته الزمنية المتغيرة ، إلى كينونة مطلقة تمارس دورا معياريا، وعندما يصبح البدوى البدائى معيارا، فالمنجز الحضاري بصفة عامة، وما يتعلق منه بطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة بصفة خاصة، سوف يخضع لتلك المعيارية البدوية، وبذلك تكون النتيجة محسومة لصالح البدائى فى مقابل المتحضر.

وقد قام صاحب "معجم الوأد" بمحاولة استكشافية للبحث عن جذور السرطان البدوى المتغلغل فى جسد الثقافة العربية، من أجل أن يلفت الأنظار إلى حيث يجب أن تلتفت، لأن أي محاولات تشخيصية للداء لا ترى تلك العلة الثقافية، فإنها تكون كمن يبنى على رمال متحركة، فلن يجدي نفعا أن نطالب بتحرير المرأة من سطوة الرجل دون فضح الأسس الثقافية التى قام عليها الخطاب التمييزى بين الطرفين، وما يؤكد رؤية الكاتب وعمق ما سعى إلى كشفه هو أن ذلك التمييز البدوى بين الرجل والمرأة وصل إلى حالة من الرمزية جعلت المستَبَدَ به / المرأة تقبل الوضع، بل وتدافع عنه فى وجه من يريد تغييره أو تعديله، باعتباره الوضع الطبيعى، وهنا مكمن الخطورة، حيث تحولت الضحية إلى شريك فى عملية القتل التمييزى المستمرة، فنحن بصدد مريض يرفض كل محاولات العلاج، حيث اكتسب التمييز الذكورى شرعيته من الضحية، وأصبح التمييز جزءا من الضمير الجمعى لأفراد المجتمع رجالا ونساء.

وفى سياق التأصيل لذلك الخطاب الذكورى فقد تحولت الرؤية الدونية للمرأة إلى كيان ثقافى حاكم لكل من الرجل والمرأة فى آن واحد، فأصبحت المرأة فى الثقافة العربية لا تخرج عن سياق النموذج الثقافى الذكورى، ويبدو ذلك صارخا من خلال نظرة المجتمع برجاله ونسائه لإنجاب الذكر، وهذه الذكورية هى ميراث عربى بدوى قبل إسلامى ظلت عالقة بعقلية العربى وتم تحويلها من خلال رمزية اللغة - زورا وبهتانا – إلى جزء من الإسلامى، رغم أن الإسلامى منها براء، بل جاء الإسلامى – ضمن أهم ما جاء به - للقضاء على مخلفات تلك العقلية الجاهلية، ولكن يبدو .. ليس كل ما يبتغيه الإسلام يدركه !

وأصبحت الإشكالية الآن فى عدم التفريق بين الميراث العربى الجاهلى والميراث الإسلامى، بل حصل خلط بين الطرفين، تم بناء عليه اعتبار كل ما هو إسلامى عربى وكل ما هو عربى إسلامى، رغم أن الإسلام قد جاء للقضاء على بعض ذلك العربى البدوى، ولكن لم يستطع الإسلام حتى الآن أن يقضى على كل الميراث العربى الجاهلى، ويبدو أنه لن يستطيع ذلك دون الالتفات إلى حقيقة العلة التى أشار إليها كاتب "معجم الوأد" ومحاولة علاجها وفقا لما أشار إليه وما يمكن أن يضاف إلى مقترحاته. وبين حين وآخر تظهر الدلائل الفاضحة لذلك الميراث الذكورى الجاهلي، تحت دعاوى عديدة منها الحفاظ على المرأة واحترامها، دون احترام لها كفاعل، بل الاحترام الذكورى الذى يراها دائما قاصرة عن الفعل، بل مفعولا بها على كافة المستويات، حيث لم تخرج عن حيز الأداة الاستمتاعية التى يحاول مالكها أن يصونها لاستمرار الدور الذى حدده لها .

وتكمن أهمية وكذا خطورة "معجم الوأد" ليس فقط فبما قدمه من تشخيص لمكمن العلة فى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة فى ظل الخطاب العربى، ولكن الخطورة فيما لم يعلن عنه الكتاب صراحة، وإن لم يتركه فى حيز المسكوت عنه، حيث أنه أحال إليه من خلال ما قدمه فى تحليله للعلاقة بين طرفى المجتمع، وما أعنيه هو البعد السياسى لـ "معجم الوأد" حيث أن الحفر فى طبقات الثقافة العربية لفت الأنظار إلى أن الاستبداد الذى يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة دون الارتكان إلى مبررات موضوعية لذلك التمييز، ليس بعيدا عن الاستبداد على المستوى السياسى، حيث أن الثقافة التى تتقبل دون كبير عناء ذلك التمييز الظالم بين طرفيها، لن تمانع فى تقبل أى نوع آخر من الاستبداد بين أى طرفين (الحاكم والمحكومين) وتلك الثقافة التى تقبلت ذلك التمييز الذكورى، بل حولته إلى كيان شرعى على المستوى المعرفى والاجتماعى معا، يمكنها أن تقوم بالتأصيل للخطاب الاستبدادى على المستوى السياسى، ولما لا ما دام المنبع واحدا !!

وإذا كان التمييز الذكورى المتأصل فى صميم الثقافة العربية قد أدى إلى علاقة غير طبيعية وشائهة بين الرجل والمرأة، فإن ذلك قد انسحب على العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكومين، حيث انتقلت القبلية بمخزونها المنتن الذى نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى صميم البنية السياسية العربية، بل تم ممارسة نفس الدور التمييزى باعتبار الحاكم كائنا فوق بشرى، وأن حكمه أيا كانت سوءاته خير من الفوضى، وتحويل العلاقة من حيزها السياسى إلى حيز أبوى، مما يخرجها عن سياق المساءلة السياسية إلى علاقة احترام وطاعة .

وبدت تلك العلاقة الشائهة من خلال التأصيل للاستبداد واعتباره أفضل من الفتنة، (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم) فأصبح الخيار فى التراث السياسى العربى هو بين الاستبداد والفتنة، وليس بين الاستبداد والحرية، وتم ذلك من خلال الغطاء الدينى، وإن لم يكن الغطاء الدينى هو الوحيد فى أداء تلك المهمة، غير أن عناصر أخرى قد تكاتفت فى الوصول إلى تلك الغاية، وأبرزها ما أشار إليه الكاتب، ألا وهو اللغة المسكونة بالانحرافات التمييزية.

ولذا أصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحمل نفس الملامح التى تحملها العلاقة بين الرجل والمرأة، فكأننا بالحاكم يحمل نوعا من الذكورة السياسية تؤهله لأن يكون قيما مطلق اليد فى التصرف فى مقدرات المحكومين، الذين يمكن اعتبارهم يمثلون الأنثوية بإيحاءاتها السلبية فى العقلية البدوية الكامنة فى الثقافة العربية، فلقد انتقلت معادلة رجل / امرأة – ذكر / أنثى من سياقها الجنسى إلى السياق السياسى، ولا صعوبة فى ذلك على اعتبار أن الجنسى والسياسى يصنفان ضمن إطار السياق الثقافى العام، فذلك يجعل نقل تلك المعادلة من حيز الجنسى إلى الحيز السياسى نوعا من التوافق الثقافى.

محمد عجلان
باحث مصري



شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق