الغيب والعقل: دراسة في حدود المعرفة البشرية - إلياس بلكا


حول الكتاب

الغيب والعقل طرفان قديما العهد في العلاقة، لطالما تجادلا وتحاورا، اتفقا واختلفا، عقل يستمد سيادته من الأرض، وغيب يستمد سلطته من السماء، علاقة اكتنفها اتجاهان؛ أحدهما من الأرض إلى السماء، والآخر من السماء إلى الأرض ومؤخرا صدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي  كتاب بعنوان  الغيب والعقل: دراسة في حدود المعرفة البشرية لـلباحث المغربي  إلياس بلكا. موضوع الكتاب هو العقل في علاقته بالمجهول والمستور من الوجود عموما، وبعالم الغيب خصوصا ويحاول أن يجيب عن هذا السؤال: هل للعقل حدود، أم أنه قوة إدراك مطلقة؟ وإن كانت له حدود، فما هي وما حقيقتها؟

يقع الكتاب في (224) صفحة، شاملاً المراجع والفهارس، وقد قسّمه المؤلف إلى بابين، الباب الأول يقع في فصلين تعرض فيه لقضية الحدود المعرفية للعقل الإنساني، كما رآها بعض أعلام الفلسفة الأوربية، منذ عهد اليونان إلى عصر كانط خاصة. ثم تناول القضية ذاتها عند بعض مفكري الإسلام الكبار.

والباب الثاني يقع في خمسة فصول وخاتمة وفيه  درس الباحث مفهوم الغيب وسعته، وقيمة الإيمان به، وأثر هذا الإيمان في الحياة... وبحث بعض مظاهر قصور العقل في تهجمه على الغيبيات، وأسباب ذلك. ثم ختم ببعض النماذج من عالم الغيب الواسع، والتي تعتبر -إلى اليوم- من ألغاز الكون التي لا حلّ لها، والتي تبين بوضوح حدود العقل وضعفه.

 في الفصل الأول من الباب الأول تحدث عن موقف بعض المفكرين والمدارس الفلسفية الغربية، إزاء العقل وحدوده، مبتدئاً بالمدرسة الشكّية القديمة التي كان رائدها (بيرون). أما الفصل الثاني الذي سماه حدود العقل في الفكر الإسلامي، فقد أطال النفس في نقل تجربة الغزالي الشكّية تجاه اليقين، ثم أشار إشارات سريعة لآراء ابن خلدون حول المعرفة ومصادرها، وموقفه من الفكر الفلسفي.

أمّا الباب الثاني، فبدأه بالفصل الأول الذي سماه قيمة الغيب، وتحدث فيه عن الغيب بوصفه حاجة إنسانية وضرورية لا تقوم الحياة من غيرها، وتطرق إلى العلاقة المطلوبة بين عالمي الغيب والشهادة، وحدود التعاطي مع كل منهما. ثم تحدث عن تأطير العلم في قوالب ثابتة وجامدة، زعماً أنها أساسية لضبط العلم، وحمايته من الخلل والزلل، وكيف أن هذا التأطير لم يسهم إلا بأسر العقل، وصنع أصنام له تحد من طاقته ومجاله الحيوي.

وفي الفصل الثاني تحدث عن سعة عالم الغيب، وكيف أنه يحتوي من التعقيد والاتساع، واختلاط الأشياء، والأمور، الشيء الكثير؛ إذ إنّ عمر هذه الأرض التي نعيش عليها مئات الملايين من السنين، فكيف بالكون بأكمله؟ ثم تحدث عن نماذج معاصرة لإنكار الغيب أمثال (بيندا) و(مارسيل بول) من مفكري الوضعية، وبيّن أن المنطقية الوضعية ليست علماً ولا منهجاً في العلم، بل هي في الواقع أيديولوجية. ثم تحدث عن أصل إنكار الغيب، وردّه إلى أسباب متعددة هي: الجهل، والعادة، والاعتماد المفرط على الحواس، ودعوى الكمال الإنساني. ثم تحدث عن الحكمة من إخفاء الغيب عن الإنسان، وأن مردّه الحاجة إلى تحقيق مفهوم (الحرية) لدى الإنسان، فلو أن الغيب كان مكشوفاً للإنسان، لانتفت الحكمة من وراء الابتلاء والامتحان، ولأصبح هناك طريقٌ واحدٌ لانعدام الاختيارات، ولأن الامتحان بعبادة الله تعالى أدعى حين يكون الإيمان مبنياً على التسليم بأمور استأثر بها الله عز وجل، فحين نصدق برسالة نبينا ونؤمن إيماناً يقينياً، فإن هذا اليقين يدفعنا إلى تقبُّل تفصيلات الرسالة السماوية؛ لأننا صدّقنا بأصل الرسالة.

وبرأي (كانط) أن الغيب شرط لتحقق الحرية الإنسانية، وإنْ لم يكن هناك برهان علمي على القضايا الأخلاقية. ثم تحدث عن العوالم المتسعة والمتنوعة، وعظمة هذه العوالم، وعلاقتها مع خالقها سبحانه "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ"  سورة الحج: 18

وجاء الفصل الثالث تحت عنوان الغيب بين الوحي والعقل، وتحدث فيه عن مصادر المعرفة الممكنة، مثل: الحواس، والعقل، والخبر الصادق، وبّين أن الأصل في شؤون الغيب أن تؤخذ من الوحي والدين، لا بمقتضيات العقل فحسب، ثم في إشارة إلى أن العقل لا يغني عن الرسالة يقول: "إذا أمكن للبشر أن يستغنوا بعقولهم عن النبوات، فأين كانت هذه العقول حين عبدت البشرية الأصنام، واعتنقت الأساطير والخرافات ردحاً طويلاً من الزمن... "

ثم تحدث عن طاقة العقل المهدورة قبل نزول الرسالات السماوية، وكيف أن هذه الرسالات وجهت العقول لما فيه الخير وما فيه الفائدة من الجهد المبذول، وأنها وفّرت على العقول أشواطاً من البحوث عديمة الجدوى، التي لو قامت بها العقول المجردة وقد حاولت العقول فعلاً ولكن دون جدوى في موضوع الله، وما وراء المحسوس، وما وراء المدرك، لم تكن لتصل لموقف صحيح أو واضح بشأنها. ثم تكلم عن الإمكان العقلي للغيب، وأنه لا يتصادم مع العقل، ناقلاً كلاماً للشيخ رشيد رضا قال فيه: "وليس في الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه إخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها لعدم الاطلاع على ذلك العالم." ثم تحدث عن المتشابه في القرآن، وكيف أن هذه الآيات عند بعض العلماء، هي من الغيب الذي امتحن الله تسليم المؤمنين به، لاستئثار الله تعالى بعلمه، وفرّق بين النص إذا عارض ظاهر العقل، والنص إذا تجاوز العقل. ففي الحالة الأولى يصدم العقل بما يخالف طريقته المعتادة في العمل، وفي الثانية لا يجد مخالفة ما، ولكنه لا يفهم كل شيء، ولا يدرك الموضوع كلّه بجميع أطرافه.

وفي الفصل الرابع تحدث عن أسباب قصور العقل ومظاهر هذا القصور، وردّها إلى عجز العقل عن إدراك الغيب، واستدل بأن الكافرين يوم القيامة سوف يعترضون على ربهم سبحانه بعدم إرسال الرُّسل، فلما لزم أن الرُّسل حاجة إنسانية لا مناص منها، علم أن العقل محتاج إلى الرُّسل في جانب من أهم جوانب حياته، وما بعد مماته. ثم تحدث عن موقف علم الكلام من الغيبيات، وأنه موقف سلبي حيال البحث فيه من منظور العقل المجرد، لذلك ألّف من ألّف من العلماء المسلمين مصنفات في كراهة الخوض في الغيبيات بلا خبر صادق. ثم بيّن أن بعض مواقف المفكرين الإسلاميين التي اتسمت بالتسامح النسبي إزاء البحث في الغيب، إنما كان منشأها الحِجاج عن العقائد الإسلامية، والدفاع عنها، وبيان صحتها، وموافقتها للعقل. ثم تحدث عن محدودية العقل الإنساني في استخدامه التجريد آلِيَّةً للمعرفة والتصوير، وبيّن أن العقل لا يستطيع أن يتخيل أو يتصور شيئاً من فراغ. ثم نقل كلام (هيوم) حول أن الأفكار نُسَخٌ لاحقة للانطباعات، لهذا يستحيل أن نفكر في شيء لم يسبق لنا أن أحسسنا به. ثم تطرق لمشكلة التعبير عند الصوفية، ومدى محدودية الرمز في التعبير عن الأمور والأشياء والموجودات. وتحدّث عن اللغة والوجود، متبنياً الرأي القائل: إن الأشياء أسبق، وإن اللغة تعبير تالٍ عن إدراك واقع قائم. ثم تكلم عن قصور اللغة عند (لوك)، وأن الكلمة في رأيه تعبير عن الكُنْه الإسمي فقط؛ أي هي رمز لشيء، ولذلك فنحن يمكن أن نعرف أفكاراً مركبة، ولكننا لا نستطيع أن نعرف الأفكار البسيطة، فقط يمكن أن نسميها. ثم تطرق لقضية الحد عند ابن تيمية، وجهد شيخ الإسلام في نفي ضرورة الحد المزعومة له من أرسطو وأتباعه؛ لأنهم يعدون الحد هو المعِّرف للماهية، وأن هذا الحد يستوفي ضبط المحدود ضبطاً تاماً، ذاكراً اعتراضات ابن تيمية بأن الحد بمفهوم أرسطو يوقعنا بالدور وهو توقف الشئ على ما يتوقف عليه، وأن الذهن الإنساني لا يمكن أصلاً أن يتوجه إلى شيء لا يعرفه. ثم ذكر مثالاً على مبدأ من المبادئ التقليدية، الذي كان يعده كثير من المفكرين الغربيين والمسلمين مبدأً أساساً في مَنْطَقة الأمور أي جعل الأمور منطقية؛ وهو مبدأ الثالث المرفوع، وبيّن كيف أن هذا المبدأ لا يحمل في طياته الأهمية التي وضعها أرسطو له مع قانوني: الماهية، وعدم الجمع بين النقيضين، مستدلاً بأقوال كبار علماء الرياضيات والمنطق الحديث، أمثال الهولندي (بروير) الذي توصل إلى احتمال القيمة الثالثة.

وفي الفصل الخامس ذكر نماذج من عوالم الغيب كالروح، وميثاق الذر، والقدر، ولغز الزمان، والرؤيا والأحلام، والموت. ثم ذكر المغزى من هذه النماذج الستة: فعهد الذر (هو الغيب الأول وبداية قصة الوجود، والروح هي من شهد ميثاق الذر وفي كل إنسان نفحة من الغيب، والقدر هو الغيب المهيمن على حياتنا، والزمان لغز يعلم العقل التواضع، ويصحب الروح في رحلتها العجيبة، والرؤيا آخر شيء يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، والموت باب الغيب الأكبر، والمدخل إلى عالمه وتذكير بالنهاية والموعد.

فهذ الكتاب يعد  ضمن فلسفة العقل التي تسعى إلى تفهم طبيعة هذه الآلة البشرية الكبيرة، ومعرفة آليات اشتغالها، وحدود هذا الاشتغال؛ كل هذا ضمن الحديث عن مفهوم قرآني كبير، هو الغيب.. هذا العالم الحاضر الغائب في آن، والذي يضيف للعقل والإنسان آفاقا غنية وواسعة، يحاول الكتاب أن يحيط ببعضها.

 لهذا كله جاءت هذه الدراسة مقارنة بين التراثين الإسلامي والغربي في الموضوع، ومستفيدة من علوم إسلامية وإنسانية متنوعة كالتفسير والعقيدة والفكر والفلسفة ونظريات المعرفة...

 ويمكن القول بأن هذا الكتاب اجتهد في الكشف عن بعض أسرار علاقة العقل بالغيب، ولعله أيضا يكون مفيدا في الجدل الحالي الذي يعرفه العالم العربي والإسلامي حول المكانة المطلوبة لكل من الدين والعقل في حياتنا العامة والخاصة.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق