الديمقراطية وثقافة الديمقراطية - محمد عجلان


تعرف الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب، باعتبارها حكم الكثرة كمقابل لحكم الفرد أو القلة، فالشعب يحكم نفسه من أجل تحقيق مصلحته، إلا أن حكم الشعب لنفسه والذي يعرف بالديمقراطية المباشرة لم يطبق بشكل كامل على مدار التاريخ البشرى، ونظرا لاتساع رقعة الدولة فى العصر الحديث وزيادة عدد سكانها وتعقد شئون الحكم فيها، فقد تم الاستعاضة عن هذه الديمقراطية المباشرة بما يسمى بالديمقراطية النيابية، حيث تقوم على أساس أن الشعب ينتخب نواباً يمارسون السلطة باسمه ونيابة عنه، وذلك من خلال مدة معينة يحددها الدستور.

وإذا كان التناول السابق لمفهوم الديمقراطية يتحرك في محيط البعد السياسي، فإن البعض يرى أن الديمقراطية أعظم اتساعاً من كونها مجرد شكل سياسي وطريقة في الإدارة الحكومية، والتشريع، وتصريف الشئون الإدارية للدولة بالاعتماد على المشاركة الشعبية وبعض المختارين من الموظفين، فهى وإن كانت كذلك بطبيعة الحال، إلا أنها أيضاً شيء أكثر من ذلك من حيث العمق والاتساع. فالديمقراطية أسلوب اجتماعي وفردي في الحياة، بمعنى ضرورة مشاركة كل إنسان في تشكيل القيم التي تنظم حياة البشر سوياً. وهذا أمر ضروري من حيث أثره على الرفاهية العامة للمجتمع، والنهوض بكل فرد فيه.

ويبدو أن كل طرف من الطرفين السابقين يتبنى تصورا خاصا عن الديمقراطية، فينظر أحدهما إليها باعتبارها شكلاً سياسياً يُمكِّن الأفراد من المشاركة فى عملية صنع القرار، بينما ينظر إليها الآخر باعتبارها فلسفة حياتية، وليست فقط شكلاً سياسياً.

والواقع أن العلاقة وثيقة بين الديمقراطية بشكليها الاجتماعي والسياسي، فكل منهما مدخل موصل للآخر، فما من مجتمع تسود بين أفراده علاقات ديمقراطية إلا وتكون حكومته في الغالب ديمقراطية. وليس ثمة مجتمع تغلب طبيعة الاستبداد على علاقات أفراده، سواء في البيت أو المدرسة أو العمل، إلا وتكون الصفة الغالبة على حكومته فى الأعم الأغلب هي الاستبداد، حتى وإن أظهرت تلك الحكومة خلاف ذلك، فشكل الحكومة يعد هو الترجمة السياسية للعلاقات السائدة في المجتمع.

ويمكن القول بأن المجتمع معبأ بمخزون ثقافي يحدد من خلاله طبيعة العلاقات بين أفراده، ويشكل وعيهم الاجتماعي والسياسي، فالفرد الذي ينشأ في بيئة تحكمها علاقات الاستبداد، حيث الأب المتسلط، ونظام التعليم التلقيني، ومؤسسة العمل البيروقراطية، بمعنى أوضح علاقات تحكمها المركزية – مركزية الأب، مركزية المعلم، مركزية رئيس العمل – هذه المركزية التي يحيا الفرد في ظلها تجعله مستعداً ومهيئاً للخضوع للاستبداد، غير مؤمن بتفرده، فما هو سوى ترس في آلة وأحد أفراد القطيع، فلا ضير إن انتقل من مركزية واستبداد الأب والمعلم والمدير إلى مركزية واستبداد الحاكم.

لكن الأمر بخلاف ذلك تماماً عندما تختلف منظومة القيم في المجتمع وتصبح طبيعة العلاقات تصطبغ بالصبغة الديمقراطية، فليس من المنطقي أن ينتقل الفرد من تلك المنظومة المحكومة ديمقراطياً في الأسرة والمدرسة والعمل إلى نظام حكم استبدادي، فتلك نتيجة خاطئة للمقدمات السابقة. فالعلاقة جد وثيقة بين الخلفية الثقافية للمجتمع وشكل الحكومة فيه.

وبذلك نجد أن هناك ما يمكن تسميته بثقافة الاستبداد كمقابل لما يسمى ثقافة الديمقراطية، وكل منهما ينشأ من خلال الممارسة الحياتية العادية، وكلاهما ضامن للنظام الذي يمثله، فثقافة الاستبداد التي تنشأ من خلال السلوك اليومي في البيت والمدرسة والعمل، هي التي تمنح النظام الاستبدادي مشروعيته، وكذلك فإن ثقافة الديمقراطية في كل من الأماكن السابق ذكرها هي التي تكون ضمانا أكيدا لرسوخ النظام الديمقراطي على الصعيد السياسي.

ولا يعنى ما سبق ذكره أن ثمة حتما يفرض علينا ضرورة استمرار الأوضاع على حالها بلا تغيير، وإلا ما قامت ثورات في التاريخ ترفض الاستبداد وتقضى عليه، لكن المقصود هو أنه من الضروري كي نحافظ على الديمقراطية التي نسعى لبنائها سياسيا، أن تتحول في الوقت عينه إلى ثقافة وسلوك حياتي، وبذلك نساهم في تشكيل ثقافة الديمقراطية التي تكون بمثابة حائط الصد المنيع ضد أي استبداد مستقبلي.
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق