حول الكتاب
ثمة أحداث فكرية كبرى تقع أمام المرء ذات بعد وجودي أنطولوجي، لا يتم التعامل معها بشكل إيجابي أو يتم الإكتفاء بالإشارة إليها، دون سعي حقيقي للنظر في تفاصيلها إن إيجابيا أو سلبيا بمصاديق عملانية. وهذه الأبحاث على أهميتها التي لا تنكر إلا أنها لا تجعل من الحدث الفكري براديغما يحرك التصورات الفكرية الجانبية والتي تؤدي لنفس المصداق، أي حسن التعاطي مع الموضوع وتقليبه من كل جوانبه.
وعليه يظل من الواجب التعامل مع الحدث بما يليق به، حرصا منا على تجاوز التقطيع في القراءة والفهم، بتوسط منهجيات معرفية تحفظ له زخمه ولا تودي به إلى مقام الأحداث الصغرى المختلفة un simple fait divers .
وربما أهم حدث وقع في التاريخ الإسلامي الحديث هو الثورة الإسلامية في إيران، والتي أثرت بشكل كلي كبروي على مجمل التصورات الدولية، فهناك من تعاطى معها إيجابيا في إطار التبني، وهناك من تعاطى سلبيا معها إن استبعادا وتوصيفها بأوصاف قدحية منفرة وإن محاولة للتبيئة مع المنظومة الفكرية الكونية، مطالبا إياها بتقديم تنازلات استراتيجية لا تجهل وتفكيك لبنى اسلامية حتى تضحي إنسانية تتفق والسقف الليبرالي الكوني. فالثورة الإسلامية وبغض النظر عن تضارب وجهات النظر بخصوصها ظلت محافظة على مقام الريادة في الهاجس العالمي، وظلت حاضرة حتى في أدق تفاصيل الحراك السياسي والإستراتيجي المتعولم.
وعندما نقول أثرت بشكل كلي كبروي يكون مقصودنا هو حضورها في السياسات العالمية الكبرى، سواء تتحرك في اتجاه المعية أو الضدية، ولهذا بالذات اعتبرت حدثا تاريخيا بامتياز ليس فقط عند المسلمين وحسب بل وإنسانيا.
ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث، فما سوف نسعى إلى تفصيله ليس وضع إضبارة فكرية على الوقائع والتمحك في الصراعات الإعلامية للخلوص إلى نتيجة مع أو ضد، بل ما سوف نعمل على بحثه هو تلك التضاريس العميقة في البنية المعرفية للثورة الإسلامية، بوصفها مكونات بنيوية ضامنة لهويتها الخاصة، ومن هنا أهمية التعاطي بشكل موضوعي ومتعالي مع هذا الحدث.
ولن نقف عند هذا الحد بل سوف نعمل على تفكيك رهان المقدس والدنيوي في الفضاء العام، لنلاحظ تحقق موجبة هامة لم ينتبه إليها من قبل وهو اندكاك الإثنينية بشروط معينة( [1] ) لأن هذا الشرط يظل أساسيا لبحث سؤال الأنطولوجية في أعلى تجلياتها، حيث لا مدخلية للزمان إلا بما هو تحقيب دون أثر تحويلي يذكر.
فالثورة الإسلامية بما هي حراك اجتماعي سياسي ارتكزت على المقدس، مضطلعة به وقائمة عليه من باب ما يلزم، فالمقدس شرط ليس عارضا بقدر ما هو شرط تأسيسي يتحكم في مسام الثورة الإسلامية، ليستدخل الدنيوي في رحمه. وهي جدلية تصل حد الإعجاز بما للواقع من شأنية، لأن التجاذبات والتدافعات الكونية قد تتحرك في الإتجاه المعاكس للمنبنى القدسي للثورة الإسلامية، دون أن تؤثر عليها بنيويا، بحيث تضحي فكرة تدخل الحركة الكونية الكبرى بأدوات ومفاهيم مختلفة تماما، كما لو أنها طلقة من فوهة التأريخ الإسلامي في جسم ليبرالي كبير متضخم بالأنا، لا يرى في نفسه إلا نهاية للتأريخ.
مما يفتح الباب مشرعا لبحث حيثية الفضاء العام وحقيقة تجليه في أصل الفكرة الثورية، وكذا مماحكات القوى الأخرى في سبيل نقضه ومحاولة إزالة شرعيته. على أي إن مبتغى هذا الكتاب هو إعادة النظر في حالة فكرية سياسية بوصفها فتحا فلسفيا، لذا نعتقد بأن الإرتهان لتجليات الحالة بشكل مقطعي أي سياسي أو ديني أواجتماعي أو نفسي حتى، لا يخدم غرض المقاربة بقدر ما يصنع حالة من التهويل مع الحفاظ على نسبة من العماء، أي أن الإنكباب على بحث تفصيلة ما دون النظر لاستراتيجية الفكرة، سوف يجيب على سؤال وينقض أسئلة كثيرة تجعل القارئ في حالة دهشة، لا في حالة فهم واستفهام، صحيح أن هذا الكتاب لا يدعي وصوله إلى لب البنية الفلسفية للثورة الإسلامية بما هي هي، لكن لا أقل يتحوز شرف الإنتباه إلى هذه الحيثية، والتي تظل غير مسبوقة.
وطبعا التعاطي مع البنية الفكرية لن يكون استغراقا لمجمل التفاصيل، دون أن يعني بأنه يرتفع عنها، بل بالعكس أن العمل هو في التفاصيل فقط أنه يظل مهجوسا بالبنينة الفكرية، نحاول من خلاله مقاربة تضاريسها بالشكل الذي يمنحني رؤية أعمق لمجمل الموجود الفكري.
وللإحاطة بالموضوع بدرجة معينة من العمق آثرت تقسيم البحث إلى ثلاثة أقسام أساسية، جعلت الأول باحثا في السؤال المنهجي لأنه سيشكل أداة استيعاب لمتبقي الأبحاث، محاولا التعامل مع بعض الأجهزة المعرفية بطريقة خاصة، سأحاول في حينه تبيان أهميتها وما يمكن أن تقدمه من خدمات في هذا الإطار. ثم عمدت إلى إجراء قراءة تركيبية لفكرة الدستورانية عند الإمام الخميني ( قده ) بوصفه المهندس المعرفي للثورة الإسلامية دون أن نغفل الإتيان بتصورات معرفية أخرى تخدم غرض الإحاطة بالتصور الكلي، وقد حاولت في هذا القسم التركيز على الأسس العقائدية وكيف تم التعامل معها، وبالخصوص فيما يتعلق بالحركة الحسينية ليس بوصفها حدثا تأريخيا قابعا في اللاوعي الجمعي، ولكن طفقت أقارب تعامل فكر الثورة الإسلامية مع الحدث وبشكل أنطولوجي وطبعا الغاية من هذا هو الإمساك بروح فكر الثورة الإسلامية والغوص في معامل التعاقلية، بمعنى البحث في الركز الحسيني ضمن البنية المعرفية. وخصصت القسم الثالث من البحث لامتحان براديغم حرصت على هندسته وتسميته بالبراديغم المهدوي، ذلك أن الإيمان وحده لا يظل كافيا إن لم تكن ثمة رؤية عميقة للجنبة المعرفية الإيمانية في عصر الغيبة الكبرى وكيف يتم السعي للبقاء على الخط المهدوي وبعد أن حرصت على إعطاء تفاصيله العامة، لأن نحت البراديغم يحتاج إلى قراءة وإعادة قراءة قبل الوصول إلى المبنى المقبول، عكفت على تبيان تفاصيله وآلياته ضمن البعد الفكري للثورة الإسلامية، ليس من جهة بحث سقف الأشراط وحسب بل أيضا حاولت تبيان المفاصل المفاهيمية الأساسية في فكرة الثورة، ورفعها إلى الجهد الفلسفي والكل وفاقا لمدماك أنطولوجي، هو نفسه البعد المنهجي المطروح في القسم الأول من الكتاب.
وأنوه إلى مسالة جد هامة أن التبويب ما هو إلى مقدمة لتسهيل التفاعل مع الكتاب، لكن بطن البحث ما هو إلى سعي تركيبي قد تتكرر مضامينه في تفاصيل معينة من البحث، لكن الغرض كان دائما أن أقدم ضمانة للفهم أكمل، بقيت مسألة أخيرة أن البعد الأكاديمي غير متوافر في هذا الكتاب البتة، فمن يريد الإستزادة في المعلومات فما عليه إلا أن يرجع للكتب المعنية بتلك المواضيع، لأن هدف الكتاب الأعلى هو الإمساك بالتلابيب دون السعي إلى إعطاء دروس مكتوبة.
فأنا شخصيا أمقت الدرس ولا أرى فيه إلا هاجس سلطة ممزوجة بالطغيان المعرفي، يدفع الطالب للتلقي دون مساءلة، لتتكرر الدورة مع غيره عندما يضحي أستاذا، وهكذا عنجهية في محراب المعرفة لا أستطيع الصبر عليه، فمن يحمل في ذاته أخلاق الإستخذاء سيصاب بالصدمة عندما لن يجد هكذا عنجهية في الطرح، فما سعيي إلا أن أفتح آفاقا أعمق في قراءة الظواهر الخارجية واستيعابها، ومشاركة الغير فيها ما دام البحث كله مفدمة تفكير بقلم مكتوب، أو لنقل جميعا بأن البحث هو فرضية ليس إلا.
[1]ـ المقصود من اندكاك المقدس والدنيوي هو العمل البشري على ضوء المقدس بمقاييس متعالية لا تتداخل مع الوقائع الخارجية إلا في اتجاه ليها لفائدة المقدس.
0 التعليقات:
إرسال تعليق