خلال الفترة الأخيرة، وخصوصًا عقب محاولة الإنقلاب الفاشلة التي حدثت في تركيا يوم 16 يوليو (تموز)من العام الحالي؛ كثر الحديث عن التجرية الاقتصادية التركية، وتحديدًا خلال الحقبة الأردوغانية، التي بدأت بحصول «حزب العدالة والتنمية» على أغلبية ساحقة لأوَّل مرة في الانتخابات التشريعية التي حدثت في عام 2002، ولم يستطع «أردوغان» ترؤس الحكومة؛ بسبب تبعات سجنه؛ إذ تم اتهامه بالتحريض على الكراهية الدينية، فقام «عبدالله غول» بترؤس الحكومة مؤقتًا، إلى أن تمكَّن أردوغان في مارس (أذار) 2003 من تولي رئاسة الحكومة، بعد إسقاط الحكم عنه. ظل رئيسًا للوزراء حتى أغسطس (آب) 2014، بعدها أصبح رئيسًا لتركيا، حتى وقتنا هذا.
تناولت العديد من الكتابات تقييم الحقبة الأردوغانية، واتسمت نسبة كبيرة منها بالغلوّ، والمبالغة؛ إما ناحية قدح التجربة وذمِّها وتهوين الحراك الاقتصادي، الذي تم خلال هذه الفترة، وإما ناحية تمجيد وتعظيم وتهويل هذه التجربة، لدرجه وصفها بالأسطورة. وما بين هؤلاء وأولئك كان لابد من البحث والتدقيق لتقييم هذه التجربة والوقوف على آثارها، مع إلقاء الضوء على طبيعة الوضع الاقتصادي التركي قبل تولي أردوغان زمام الأمور.
طبيعة الوضع الاقتصادي قبل عام 2003
تميَّزت فترة ما بعد تحرير الاقتصاد التركي في العام 1981 إلى عام 2003 – وخصوصًا عقد التسعينات – بمرور الاقتصاد بفترات ركود حادَّة، بالإضافة إلى حدوث العديد من الأزمات المالية التي كان أبرزها الأزمة المالية والاقتصادية عام 2001. بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي خلال هذا العقد حوالي 4% سنويًا. كما تميَّزت هذه الفترة بعدم وجود إصلاحات حقيقية، مع إنتشار الفساد بدرجة كبيرة، وارتفاع في معدَّلات التضخُّم، حتى وصل لرقمين، وضعف في القطاع المصرفي، مع زيادة في تقلبات الاقتصاد الكلي. ويرى العديد من النقاد أن السبب الرئيس في عدم الاستقرار الاقتصادي في تركيا، خلال عقد التسعينات، هو عدم تطبيق إصلاحات قانونية ومؤسسية كانت لازمة بعد تحرير الاقتصاد في أوائل عام 1980.
أما عن معدَّلات التضخم فقد بلغت حدًا مزمنًا خلال عقد التسعينات؛ إذ تراوحت ما بين 70 – 90% كما هو موضح بالشكل
وفي سبيل مكافحة هذا التضخم المزمن، اعتمدت تركيا برنامجًا مدعومًا من صندوق النقد الدولي لتحقيق الاستقرار في عام 1999، وتضمَّن هذه البرنامج ربط «الليرة التركية» بالدولار، كما اشترط صندوق النقد الدولي من أجل نجاح هذا البرنامج وجود سياسة نقدية صارمة، بالإضافة إلى مزيد من تحرير الاقتصاد.
كما يتَّضح من الشكل أعلى الفقرة، فإن البرنامج كان له تأثير إيجابي كبير على الاقتصاد التركي خلال المراحل الأولية؛ إذ انخفض معدَّل التضخُّم، وانخفضت أسعار الفائدة على أذون الخزانة من 90% إلى 40%. في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2000، وبالرغم من اعتماد برنامج الاستقرار، إلا أن الاقتصاد التركي شَهِدَ أزمة سيولة، والتي تفاقمت فيما بعد؛ بسبب الانخفاض الحاد في قيمة الليرة التركية في فبراير (شباط) 2001؛ كنتيجة لذلك بدأت أسعار الفائدة في التقلب بمعدلات كبيرة؛ إذ تراوحت بين 18.6% ، 45.9% في شهر أبريل (نيسان) عام 2000، وبين 13.6% ، 38.8% في شهر يوليو (تموز) من العام 2000، وبين 23.7% و 79.6% في شهر سبتمبر (أيلول) وبلغت ذروتها بنسبة 316% في نوفمبر (تشرين الثاني) و 873% في يناير (كانون الثاني) من نفس العام، كما بالشكل التوضيحي بالأعلى.
أدى الارتفاع في أسعار الفائدة إلى صعوبة كبيرة من قبل البنوك في بيع السندات الحكومية التركية، والمحافظة على حجم السيولة.
«الأربعاء الأسود» .. هشاشة النظام المالي والاقتصادي
في 21 فبراير (شباط) 2001، والمعروف أيضا باسم الأربعاء الأسود؛ حيث شهدت تركيا أسوأ أزمة مالية واقتصادية، والأكثر خطورة في العصر الحديث، قبلها بيومين حدثت مشاَّدة حامية أثناء اجتماع مجلس الأمن الوطني التركي ساعدت على تفجر الأوضاع بين كل من رئيس الوزراء «مصطفى أجاويد» والرئيس التركي «أحمد نجدت سيزر» كشفت عن هشاشة الوضع الاقتصادي والمالي التركي؛ إذ قام سيزر بتوجيه تهم التقصير إلى الحكومة، وتسببها في وضع تركيا في هذا الموقف الصعب، بعدها تصاعدت حدَّة النقاش، وانسحب رئيس الوزراء من الاجتماع، ومعه بعض الوزراء، ثم أدلى بتصريح مفاده أن الأزمة الحالية تعتبر خطيرة بدرجة كبيرة، وفُهم من هذا التصريح أنه اعتراف بفشل الحكومة. بعد هذا الصدام بيومين أي 21 فبراير (شباط) انهارت الليرة التركية، وبعدها بشهر فقدت ما يقرب من نصف قيمتها، وهبطت بورصة اسطنبول هبوطًا كبيرًا؛ مما دفع البنك المركزي التركي إلى تعزيز الأسواق المالية بمبالغ كبيرة، تراوحت بين مليارين، وثلاثة مليارات دولار، وشرع الاقتصاد التركي في الانكماش بنسبة 6% في عام 2001.
وبالرغم من دعم ومساندة صندوق النقد الدولي، الذي قدم المزيد من الأموال، حتى عام 2001؛ لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، وخفض أسعار الفائدة، من خلال العمل على استعادة الثقة، حتى وصل إجمالي التمويل الذي قدمه الصندوق لتركيا منذ ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 إلى ما يقرب من 30 مليار دولار، ومع ذلك فقد انخفض الناتج المحلِّي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة 6.5% في 2001، وارتفع الدين العام من 38% في عام 2000 إلى 74% من حجم الناتج المحلي في عام 2001، وارتفع معدل البطالة من 6.5% عام 1999 إلى 10.4% في عام 2002.
الإنقاذ يأتي من خلال إصلاحات فورية
شرع وزير المالية «كمال درويش» بعد هذه الأزمة في اعتماد العديد من الإصلاحات التي بدأت على الفور تؤتي ثمارها، حيث ارتفع الناتج المحلي إلى 5.7% في عام 2002، وانخفض معدل التضخم من رقمين إلى رقم واحد، وارتفعت ثقة المستثمرين، وانخفضت البطالة تدريجيًا، وفتحت تركيا أسواقها بشكل متدرج من خلال القيام بالعديد من التدابير التي تمثلت في الحد من القيود الحكومية على التجارة الخارجية والاستثمار، وخصخصة الصناعات المملوكة للقطاع العام، وتحرير العديد من القطاعات ومشاركتها مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي، بالرغم من الجدال السياسي الذي كان دائرًا بشأن ذلك في هذا الوقت.
يتضح مما سبق أن فترة ما قبل حقبة أردوغان قد تخلَّلهَا العديد من المشاكل الاقتصادية والأزمات المالية؛ بسبب التأخر في إجراء الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية، حتى بدأت تتكون إرادة حقيقية للتغيير بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت تركيا في 2001؛ حيث عمدت المؤسسات الاقتصادية في الدولة إلى إجراء إصلاحات وإعادة هيكلة للاقتصاد، فبدأت هذه الإصلاحات تؤتي ثمارها مدفوعة بآمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حتى بدأت الانتخابات البرلمانية التركية في 2002 ثم ترأس أردوغان الحكومة في 2003، و من هنا بدأت حقبة أردوغان.
أردوغان!
في هذا الجزء من التقرير، سنمرُّ مرورًا سريعًا على أهم القطاعات الاقتصادية التي اهتمت حكومة أردوغان بتطويرها، كالتالي:
1-تعزيز القدرة التنافسية والتوظيف:
وصلت تركيا إلى وضعٍ متميز كدولة ذات دخل متوسط أعلى في تصنيفات القدرة التنافسية العالمية، حيث تحتل المرتبة 45 في مؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي 2014/2015، وتأتي في المرتبة 55 في التصنيف العالمي لممارسة أنشطة الأعمال للبنك الدولي. في حين كان ترتيبها في مؤشر التنافسية العالمية في عام 2002 رقم 61، وبالتالي نلاحظ التحسن الذي حدث في القدرة التنافسية للاقتصاد التركي.
ولكن على مستوى صافي الاستثمار الأجنبي المباشر FDI فقد تدفق بمتوسط أقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2002 و 2014 وهي نسبة أقل من الصين وروسيا والبرازيل والمكسيك وبولندا وماليزيا والدول ذات نفس الدخل في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
2-وضع أسواق العمل:
على الرغم من النجاح الملحوظ في خلق فرص العمل في السنوات الأخيرة، إلا أن ما يقرب من نصف السكان البالغين سن العمل التركي WAP لا يدخل سوق العمل، ويرجع ذلك إلى انخفاض معدل المشاركة في القوة العاملة من النساء، أي حوالي 30% أقل من نصف المعدل لدول منظمة التعاون والتنمية OECD بمتوسط حوالي 65%. وحوالي 35% من الشباب معظمهم من النِّساء لا يعمل ولا يذهب للمدرسة، كما أن أعلى نسبة شباب غير نشط توجد في تركيا بالمقارنة بدول منظمة التعاون والتنمية، كما أن ارتفاع تكلفة اليد العاملة تعد من المعوقات الكبيرة لخلق فرص العمل في تركيا.
إلا أنّ الحد الأدنى للأجور مرتفع لدرجة تجعله الأعلى بين دول منظمة التعاون والتنمية، وكذلك فإن تركيا لديها نظام مكافأة نهاية الخدمة سخيّ جدًا. وبالتالي نجد أن التحدي الرئيس في الأجل المتوسط هو تعزيز مشاركة الشباب والنساء في القوى العاملة. ومن أجل ذلك فقد وضعت الحكومة أولويات خلق فرص العمل في خطة التنمية الوطنية العاشرة وقد وافقت في أوائل العام الحالي على استراتيجية التوظيف الوطنية the National Employment Strategy.
كما بلغ معدل البطالة في 2005 حوالي 9.7%، وارتفع في 2009 إلى 13.4% ثم هبط لأدنى مستوى منذ العام 2005 إلى 8% في عام 2012 ثم عاود الارتفاع إلى أن وصل في فبراير (شباط) 2015 إلى 10.1%.
3-الفقر والحماية الاجتماعية:
بتأثير النمو الاقتصادي السريع بعد أزمة عام 2001، فقد تحسَّنت النتائج الاجتماعية في تركيا، حيث انخفض الفقر من 44% في عام 2002 إلى 22% في عام 2012، وعلى الرغم من ذلك، فإن النسب لا تزال عالية، كما أن الحِراك الاجتماعيّ للحكومة لا يزال محدودًا. وكذلك انخفض معدل الفقر المدقع بين عامي 2002-2012 من 13% إلى 4.5% وانخفض معدل الفقر المعتدل من 44% إلى 21%.
أما عن مؤشر التنمية البشرية HDI فقد زاد من 0.671 في 2005 إلى 0.759 في 2013؛ مما وضع تركيا ضمن دول مجموعة التنمية البشرية المرتفعة. ومع ذلك فإن مؤشر التنمية البشرية لعدم المساواة IHDI والذي يضبط التباين في قياسات الدخل والتعليم والصحة هو 16% أقل من مؤشر التنمية البشرية الاسمي؛ ما يضع تركيا في المركز 72 من بين 188 دولة في عام 2014 وهو مركز متأخر بالطبع. ومن الجدير بالذكر في هذه النقطة أن أزمة اللاجئين السوريين التي تدخل عامها الرابع تضع الحكومة التركية تحت ضغط كبير.
4-التعليم:
حققت تركيا تقدمًا كبيرًا في زيادة معدلات الالتحاق بالمدارس، فاعتبارًا من 2014/2015 حققت معدل التحاق بالمدارس الابتدائية يكاد يكون عالميًا بنسبة 96.3%، مع معدلات التحاق بالمدارس الثانوية بلغت نسبتها 79.4%، وتسعى الحكومة بنشاط إلى زيادة معدلات الالتحاق بالمدارس الثانوية من خلال الامتثال لقانون «4 + 4 + 4» الخاص بالتعليم، الذي ينص على إلزامية التعليم، حتَّى الصف 12 أو الثالث الثانوي. كذلك فقد اختفت الفجوة في الالتحاق بالمدارس الابتدائية بين الجنسين، وضاقت إلى حد كبير في التعليم الثانوي. وبالتوازي مع ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس فقد تحسن متوسط درجات الأداء في التقييم الدولي للطلاب PISA في تركيا بشكل كبير وانخفض التفاوت في أداء الطلاب.
5-الرعاية الصحية:
يعتبر برنامج التحول الصحي التركي Turkey’s Health Transformation Program مثالًا يحتذى به للعديد من الدول في كيفية إجراء تحول سريع ومؤثر في الأداء الصحي للفقراء. في عام 2003 اعتمدت الحكومة برنامج التحول الصحي HTP لإصلاح طريقة الرعاية الصحية، واقتربت تركيا من تحقيق تأمين صحِّي شامل، كما زادت الحماية المالية كذلك، وحصل تحسن كبير في العدالة المتعلقة بالحصول على الرعاية الصحية. ويمثل التحدي الرئيس في القدرة على جعل تكاليف الرعاية الصحية تحت السيطرة، حيث يتزايد الطلب عليها، كما تتزايد أعمار السكان، وكذلك التقنيات الحديثة. كما أن إجمالي الإنفاق الصحي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي قد زادت بشكل مطرد منذ عام 2003 لتصل إلى 6.7% في عام 2011، كما ركزت الحكومة على الاهتمام بتحسين الكفاءة مع الحفاظ على خدمات ذات جودة عالية لجميع السكان.
6-الطاقة:
أدت الإصلاحات في قطاع الطاقة إلى جذب استثمارات كبيرة من القطاع الخاص، وتشمل هذه الإصلاحات والتدابير؛ تشريعات متعلقة بالكهرباء والغاز والطاقة المتجددة، وكفاءة الطاقة، وإنشاء سلطة تنظيمية لقطاع الطاقة، وإصلاح أسعار الطاقة، وإنشاء سوق للكهرباء، وإدخال الغاز الطبيعي على نطاق واسع، وإعادة هيكلة شركات الطاقة المملوكة للدولة، والشراكة مع القطاع الخاص على نطاق واسع من خلال الخصخصة وإدخال استثمارات جديدة، كما تم تطبيق مجموعة شاملة من أنظمة الطاقة.
7- تركيا والاتحاد الأوروبي
أصبحت تركيا مرشحة للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي في عام 1999 وبدأت المفاوضات الفعلية للانضمام في أكتوبر (تشرين الأول) 2005. كان لهذه المحاولة عظيم الأثر في إجراء إصلاحات في تركيا. كما يعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر شريك اقتصادي لتركيا، وهو يمثل نحو 40% من التجارة التركية، وقد استفادت تركيا بشكل كبير من تعميق التكامل مع الاتحاد الأوروبي من خلال تطوير كل من الصادرات والواردات والحصول على التمويل.
نظرة عامة على الوضع التركي الحالي
تركيا الآن ضمن الشريحة العليا من البلدان متوسِّطة الدخل، مع ناتج محلي إجمالي قدره 799.54 مليار دولار، مما يضعها في المركز 17 كقوة اقتصادية عالمية. استطاعت في أقل من عقدٍ من الزمان أن تضاعف نصيب الفرد من الدخل ثلاث مرات تقريبًا، والآن يتجاوز الدخل 10.5 آلاف دولار سنويًّا. كما أنها عضو في منظمة التعاون والتنمية ومجموعة الـ 20، ومن الجهات المانحة المهمة في المساعدة الإنمائية الرسمية الثنائية ODA. كما أنها أصبحت مُصدرًا ذا ثقة للسلع الاستهلاكية ذات الجودة العالية، وهي الآن أكبر منتج في أوروبا لأجهزة التلفزيون، والمركبات التجارية الخفيفة، كما أن سلعها تمر إلى داخل السوق الألماني؛ بسبب دقَّتها. كما تُعد تركيا ثامن أكبر منتج للمواد الغذائية في العالم والوجهه السياحية السادسة الأكثر شعبية. كما أن 43 شركة من أكبر 250 شركة إنشاءات عالمية تركيَّة.قبل عشر سنوات تدهورت صناعة الغزل والنسيج بشدة، أما الآن فقد أصبحت صناعة متطورة وتصدر سلعًا ذات جودة أعلى إلى أوروبا.
قفزت الصادرات بنسبة هائلة في خلال الحقبة الأردوغانية، وبلغت 325% في السنوات العشر حتى 2012. بين عامي 2002 و2007 نما الاقتصاد التركي بمعدل 6.8% سنويًا، ولكن منذ ذلك الحين، وهو متقلب ومتواضع، فقد بلغ مُعدَّل النمو خلال العقد الماضي حوالي 3.5%، وارتفع دخل الفرد ارتفاعًا طفيفًا خلال السنوات الأربع الماضية، كما انخفض مُعدَّل الصادرات، وكان متوسط مُعدَّل التضخم فوق المستوى المستهدف للبنك المركزيّ.
بحلول العام 2007 تحوَّل الاقتصاد التركي من سيطرة الأنشطة الزراعية التقليدية في المناطق الريفية إلى مجمعات صناعية «ديناميكية» للغاية، ومنتشرة في المدن الكبرى، مع قطاع خدمات متقدم، حتى أصبح القطاع الزراعي يمثل 11.9% من الناتج المحلي في حين إن القطاعات الصناعية تمثل 23.7%، والخدمية تمثل 64.5%. كما شهد قطاع السياحة نموًا سريعًا خلال حقبة حكم أردوغان، وأصبح يشكل جزءًا هامًا من الاقتصاد. في عام 2005 كان هناك أكثر من 24 مليون زائر لتركيا؛ حيث ساهموا بعائدات تتجاوز 18 مليار دولار.
ولكن.. تباطؤ وتذبذب في السنوات الأخيرة
بسبب الانتخابات سيطر عدم اليقين في أعوام 2013، 2014، 2015 على الاقتصاد التركي، وكذلك التطوُّرات الجيوسياسية، ومخاوف بشأن تعامل الحكومة مع مزاعم فساد هزَّت الثِّقة، وأضعفت الطلب من جانب القطاع الخاص، وبالطبع بلغت درجة عدم اليقين أقصاها؛ بعد محاولة الانقلاب الأخيرة، خلال الشهر الحالي.بعد تزايد النمو بنسبة 4.2% في عام 2013، تباطأ الاقتصاد مرة أخرى في 2014 إلى 2.9% مدفوعًا بتراجع ثقة المستثمرين منذ منتصف 2013 في الأسواق الناشئة بصفة عامة، وكذلك بسبب تقلبات العملة والأسواق المالية في هذا الوقت.
أمَّا عن العجز في الحساب الجاري فقد تم تضييقه إلى 5.7% من الناتج المحلِّي في 2014، في حين كان العجز قد وصل في 2011 إلى ما يقرب من 10%. وبالاستفادة من الانخفاض الحاد في أسعار النفط، فقد استمرّ التقلُّص في عجز الحساب الجاري إلى نحو 35 مليار دولار في 12 شهرًا حتى نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهو أدنى مستوى له في أكثر من خمس سنوات، ولكن يتوقع أن يرتفع العجز مرة أخرى بعد محاولة الانقلاب الأخيرة.
كما ارتفع النموّ إلى 4.2% في 2015 متخطيًا التوقعات في هذا العام، ومدعومًا بالاستهلاك المحلي الذي ارتفع كثيرًا بسبب النمو الحقيقي للأجور، وانخفاض أسعار النفط، وتدفق اللاجئين بشكل كبير من سوريا. وبالرغم من الإنفاق الحكومي لدعم النمو، إلا أن استثمارات القطاع الخاص ظلت متدنية؛ وسط مناخ ضعيف للأعمال. كما تباطأت الصادرات بحدَّة؛ بسبب تباطؤ الطلب من الاتحاد الأوروبي والأزمة الاقتصادية في روسيا؛ حيث تعتبر روسيا موردًا كبيرا للطاقة والسياح وسوق للصادرات الزراعية التركية، كما جعل الخلاف السياسي بين البلدين، قبل عودة العلاقات مرة أخرى قبيل محاولة الانقلاب؛ جعل الأمور أكثر سوءًا.
على جانب التمويل، فقد تباطأت التدفقات الداخلة إلى تركيا بشكل حاد، وتلاشت التدفقات قصيرة الأجل؛ بسبب حالة عدم اليقين السياسي الداخلي، وتراجعت درجة الإقبال على المخاطرة العالمية؛ مما أدى إلى انخفاض في الأصول الاحتياطية للبنك المركزي.
وبسبب انخفاض قيمة الليرة التركية فقد ارتفع معدل التضخم في عام 2015 حتى وصل إلى 9.6% بحلول يناير (كانون الثاني) 2016، وهي نسبة أعلى بكثير من المستهدف للبنك المركزي وهو من 3-7%. كما ارتفعت الديون الخارجية لتركيا ولاسيما على شركاتها وارتفعت خدمة هذه الديون.
مشاكل عميقة تهدد التقدم الاقتصادي
هناك مجموعة من المشاكل الداخلية التي يعاني منها الاقتصاد التركي، والتي تهدد بتقويض مسار التقدم الاقتصادي التركي، مثل القرارات التعسفية، التي تجعل من الصعب على الشركات الصغيرة أن تنمو وتكبر وتصبح أكثر كفاءة، فالمنتدى الاقتصادي العالمي يضع تركيا في المرتبة 131 من بين 144 دولة في كفاءة سوق العمل. ويتفق معظم الخبراء الاقتصاديين على أنه بدون إجراء إصلاح هيكلي كبير فسوف يظل هناك ضعف في النمو الاقتصادي؛ إذ يقول «إيمري ديلفيلي»، وهو كاتب تركي متخصص في الشئون الاقتصادية، أن الوضع الحالي للاقتصاد التركي سوف يؤدي إلى معدل للنمو الاقتصادي بين 3 – 3.5% وهو معدل جيد بالمقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا، ولكن التركيبة السكانية لتركيا الآن تحتاج إلى نموٍ اقتصاديٍّ لا يقلُّ عن 3.5% للحفاظ على معدل البطالة الحالي وعدم زيادته.
تركيا الآن واقعة فيما يسميه الاقتصاديون بـ «فخ الدخل المتوسط» وهي المنطقة التي تقع فيها الاقتصاديات التي خرجت مؤخرًا من الفقر لتحاول أن تنتقل إلى مجموعة الدول الغنية، حيث تعرف هذه الاقتصاديات كيفية تجميع السيارات أو زيادة الانتاجية الزراعية أو تعبئة رأس المال والعمل، ولكنها تجد صعوبة في إضافة القيمة من خلال البحث والتطوير والتصميم وإنشاء علامات تجارية ذات ثقل عالمي، فوفقًا لبيانات البنك الدولي، فإن حصة تركيا من السلع ذات التقنية العالية في الصادرات المصنعة هي 2% فقط منذ العام 2002.
عندما انهار الاقتصاد التركي في عام 2001، قدم صندوق النقد الدولي برنامجاً للعلاج كما وضحنا سابقاً، وتم تعزيز هذا البرنامج بالآمال في الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، وبسبب الضوابط الصارمة على الانفاق الحكومي، وزيادة شفافية الموازنة العامة، ومنح المزيد من الاستقلالية للبنك المركزي، والتوجه نحو أسواق أكثر انفتاحًا وأفضل تنظيمًا، تحقَّقَ الأذدهار التركي في وقت لاحق، ولكن في السنوات الماضية، وبعد أن تراجعت حماسة الاتحاد الأوروبي لضم تركيا، و تضاؤل القوة الدافعة للإصلاح، ربما سيضع هذا الاقتصاد التركي على مفترق طرق.
سياسات حكومية تُقلق الجميع
في الآونة الأخيرة صدرت ورقة بحثية لأثنين من الاقتصاديين الأتراك وهم: «دارون أسيموغلو» من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و«مرات أوسير» من جامعة كوتش في اسطنبول، تشير الورقة إلى أنه، على الرغم من نجاح حكومات حزب العدالة والتنمية في المحافظة على الانضباط المالي بطريقة جديرة بالثناء، إلا أنّ إدارتها الاقتصادية في نواحٍ أخرى كانت أقل إثارة للأعجاب، وأن حكومة حزب العدالة والتنمية، التي دعمت الانفتاح الاقتصادي، قد قدمت دليلًا قويًا على قدرتها في إحداث تقدم اقتصادي هائل، إلا أنه ـ تدريجيًا ـ أصبح هناك سيطرة فعلية، وتمت السيطرة الفعلية بحكم القانون للكوادر الحاكمة، كما ارتفعت معدلات الفساد والتعسف، كما أن صنع القرار أصبح لا يمكن التنبؤ به.
كما أنَّ هناك كتاب سوف يصدر قريبًا لـ «إسراء جوراكار» من جامعة أوكان بعنوان «سياسة المحاباه في المشتريات العامة في تركيا» يؤكد النقطة السابقة، حيث تقول الكاتبة إنه تم اعتماد قانون في عام 2001 لتنظيم المشتريات الحكومية في ظل الإجراءات الإصلاحية التي تم اتخاذها آنذاك لتحسين الشفافية، ومع مرور الوقت فإن عددًا من الاستثناءات للقانون ارتفعت بشكل كبير، كما انكمشت حصة العقود العامة التي تُمنح عن طريق المزاد العلني. وبحلول عام 2011 فإن نحو 44% من العقود الحكومية يجري منحها من قبل إداريين غير خاضعين للمساءلة.
كما أن الشركات التي ليس لها أصدقاء في الحكومة تعاني بشكل كبير، واحدة من شركات الإنشاءات الضخمة والأكثر نجاحًا في تركيا مع سجل حافل من الأنشطة الدولية ومبيعات سنوية تقترب من 6 مليار دولار؛ لم تفز بأي عقد كبير للحكومة التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، ويقول البعض بأن ذلك يرجع إلى أنها قريبة جدًا من الحكومات الغربية التي كانت تنتقد الحزب. وكذلك فإن الشركات التي تمتلك وسائل إعلام قد تتوقف أعمالها في مجالات أخرى؛ إذا فشلت في مسايرة الركب. كما انخفض سهم شركة «دوجان القابضة» التي تمتلك بعض الصحف المستقلة القليلة المتبقية والقنوات التلفزيونية بنسبة 16%؛ بسبب إعلان نتائج الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضية والتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية. أما بعد محاولة الانقلاب الأخيرة فقد ارتفعت بشدة عمليات توقف الأنشطة والاعتقالات على إثر اتهامات بتدبير محاولة الانقلاب.
يقول منتقدو الحكومة أن الشركات التي لديها علاقات جيدة مع الحكومة تبلي بلاًءحسنًا، وتفوز، ليس فقط بالعقود الحكومية المباشرة، ولكن الامتيازات تصل إلى اتفاقات تشمل الأراضي المملوكة للدولة، وكذلك الإنذار المبكر قبل الشركات الأخرى بأي تغييرات تنظيمية سوف تجريها الحكومة. ومن الأمثلة على ذلك هيئة TOKI وهي هيئة تابعة للدولة مهمتها توفير السكن بأسعارٍ معقولة، فقد حوَّلها حزب العدالة والتنمية إلى شريكٍ للمطورين من القطاع الخاص. فكما يقول الخبير الاقتصادي «مصطفى سونميز» بأن « هناك دائرة، أنا أعطيك الأراضي العامة، وأنت عليك البناء، ثم نتقاسم معًا، إنها طريقة رائعة لمكافأة الأصدقاء».
شكوكٌ في استقلالية البنك المركزي التركي
يتدخل أردوغان في شئون البنك المركزي التركي TCMB الذي فشل في السنوات الأخيرة في كبح جماح التضخم حتى وصل إلى 9% وكذلك عدم قدرته على منع الانخفاض المطرد في قيمة الليرة التركية التي تراجعت إلى النصف مقابل الدولار منذ 2010، ويلقي العديد من الاقتصاديين ورجال الأعمال باللوم على أردوغان؛ لإلحاحه على الملأ على البنك المركزي بتخفيض أسعار الفائدة، حتى إنَّه في إحدى المرات قد اتهم محافظ البنك المركزي «إرديم باسجي» بأنه خائن للأمة؛ لدفاعه عن معدلات الفائدة المرتفعة.
ليس من الواضح تحديدًا لماذا يقلق أردوغان للغاية من ارتفاع أسعار الفائدة، وإن كانت تكهنات قد أشارت إلى الدوافع المحتملة لذلك، ما بين محاولة جذب الناخبين من خلال جعل الاقتراض أقل تكلفة، إلى مخاوف دينية حول الربا، وكثيرًا ما كان يلمح مستشاروه الاقتصاديون بوجود «لوبي أسعار الفائدة» عالمي غامض يسعى لتدمير الاقتصاد التركي. بالطبع كل ذلك يخلق بيئة طاردة للاستثمار.
يرجع العديد من الاقتصاديين زيادة الديون الاستهلاكية إلى السياسة المالية المتساهلة التي يدعمها أردوجان، حيث نمت هذه الديون من متوسط قدره حوالي 5% من دخل الأسرة في عام 2002 إلى 55% في عام 2013. كما أن نهم الأتراك للاقتراض قد جعلهم يشعرون بالغنى، حيث تضاعفت الثروات الأسمية للأسر التركية ثلاث مرات خلال العقد الماضي، وانخفض معدل الادخار بشكل ثابت حتى بلغ 12.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014 وكان حينذاك أدنى مستوى له في أي سوق ناشئ كبير.
كما أن أسعار الفائدة المنخفضة التي يدعمها أردوغان قد اتجهت إلى الاستثمار البعيد عن الصناعة في قطاعات ذات عوائد أسرع مثل واردات السلع الاستهلاكية والمضاربات العقارية. فوفقًا لصندوق النقد الدولي فقد ارتفعت نسبة الائتمان المصرفي المخصصة للبناء في الفترة بين منتصف 2012 ومنتصف 2014 من أقل من 50% إلى أكثر من 70% من جميع القروض، لذا نجد انتشار كبير في جميع أنحاء البلاد للمناطق السكنية الجديدة والفاخرة، ومجمعات المكاتب، ومراكز التسوق وهي أكثر بكثير من المصانع الجديدة.
تراكم للديون وتراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر
كما أدى الانخفاض في الادخار المحلي إلى جعل تركيا أكثر اعتمادًا على التمويل الأجنبي، فديونها الخارجية تقترب من 400 مليار دولار أو حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي، والكثير من هذه الديون قصيرة الأجل، والجزء الأكبر منها على القطاع الخاص. مما جعلها تحصل على درجات ضعيفة من وكالات التصنيف الائتماني؛ حتى قبل التخفيض الذي حدث منذ أيام على إثر محاولة الانقلاب الأخيرة. فكلٌّ من موديز وفيتش قد وضعت الديون السيادية التركية في أدنى درجة للاستثمار، بينما وضعتهاستاندرد آند بورز في درجة «غير مرغوب فيها».
أما عن الاستثمار الأجنبي المباشر الذي بلغ ذروته بحوالي 22 مليار دولار في عام 2007؛ بدأ يأخذ اتجاهًا هبوطيًا منذ ذلك الحين، وأنزلق إلى حوالي 12.5 مليار دولار في عام 2014. الشركات الأجنبية لم تجري أي عمليات استحواذ كبيرة في تركيا في السنوات الأخيرة، ولم تطلق أي مشروعات جديدة كبيرة كما يشير السيد «سونميز» الخبير الاقتصادي. ويرجع ذلك جزئيًا إلى قلق عام من الأسواق الناشئة، وإلى التقلبات السياسية في تركيا، وضعف العملة، وارتفاع معدل التضخم نسبيًا، والقرب من منطقة الشرق الأوسط المضطربة، والشكوك المتزايدة حول سيادة القانون. ومن المتوقع أن يتفاقم التراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر في الأجل القصير؛ بعد محاولة الانقلاب بسبب ارتفاع درجات عدم اليقين.
في بداية الحقبة الأردوغانية، كانت هناك علامات من الحكومة الجديدة مطمئنة إلى حد بعيد، والتزمت الحكومة بالوعود الانتخابية باهظة التكاليف، مثل: الحد الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات، والإنفاق الاجتماعي، وزيادة الاستثمار في البنية التحتية لتعزيز النمو، كما هدفت إلى خلق المزيد من فرص العمل وزيادة القدرة التنافسية.
إلا أن العديد من الكيانات والمؤسسات، مثل: الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية، بالإضافة إلى العديد من الاقتصاديين الأتراك؛ يشيرون إلى تغير الأولويات في السنوات الماضية لدى الحكومة التركية.
تركيا بحاجة إلى تسريع الإصلاحات الهيكلية وتحسين الثقة في مؤسساتها والاستفادة من إمكانيات النمو الكامنة فيها، واستغلال نقاط قوتها المتمثلة في الشباب، والسوق المحلية الكبيرة، والموقع الاستراتيجي. كما ينبغي مواصلة بناء البنية التحتية القوية، وإجراء المزيد من التحسينات في الخدمات العامة، وإيجاد حلول سريعة لمشاكل الاستثمار المحلي والأجنبي، التي تتمثل في عدم القدرة على التنبؤ، وانعدام الشفافية في مناخ الأعمال، وانعدام الثقة في المؤسسات الرئيسة، كما أن هناك فجوة واسعة بين التصريحات السياسية وتنفيذها، وقد زادت في السنوات الأخيرة، وتحتاج إلى تقليصها؛ لإستعادة ثقة المستثمرين، والعمل سريعًا على ترميم التشوهات التي حدثت بسبب محاولة الانقلاب الأخيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق