حول الكتاب
أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عن ربه، ولم تبين له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوة، وترك له أن يتصرف بعقله وعمله وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء. وجاء الوحي مفصلاً قاطعاً في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته، ولم يكن كذلك فيما يخص النظم الاجتماعية للأسرة والقربة والمدينة والدولة منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول، فهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي.
فقد صار مبلغاً عن ربه داعياً إليه، حامياً لتلك الدعوة ولحرية الداعين، مدافعاً عنهم، وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ومنظم جميع الصلات والروابط فيها، وبينها وبين غيرها من الأمم. وقد أقام العدل في ذلك كله، وألف بين أمم وطوائف ما كان العقل يسبغ إمكان التأليف بينها، وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر وكمال الفطنة وسرعة الخاطر وقوة الحزم في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، وتفجرت منه ينابيع العلم والمعرفة، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رؤوسهم أمامها إجلالاً وهمية، وفارق الدنيا وهو راضٍ عن عمله مرضيّ من الله ومن المسلمين. وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، كسائر العظماء، أضيف إليها ما ليس منها، أما عن حب وهوى وحسن قصد، وأما عن سوء قصد وحقد. غير أنها تمتاز عن سير العظماء جميعهم بأن منها شيئاً كثيراً ضمه الوحي الإلهي، وضمن حفظه القرآن المطهى، وشيئاً كثيراً روي على لسان الحفاظ الثقات من المحدثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ووثائقها، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه، ملاحظاً في ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.
وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه "حياة محمد" في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب العلمي البعيد كل البعد عن منهج كتاب السيرة ممن سبقوه واضعاً بآرائه ومدعواً لها بمنطق قوي وحجج باهرة وأسلوب اختص به لا تخفى نسبته إليه وذلك لما تمتع به من خلفية ثقافية قديمة وحديثة غنية بشتى العلوم: القانون، المنطق الفلسفة. على ضوء هذه الثقافة وهذه القوة في الحجة والبيان نسج الدكتور هيكل كتابه وقال في مقدمته: "لست مع ذلك أحسب أني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث على الطريقة الحديثة.
وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قويّ. فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها، وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته.
وقد جعل الدكتور طريقته في السيرة طريقة القرآن الذي جعل العقل حكماً وبالبرهان أساس العلم، وعاب التقليد ودام المقلدين، وأنّب من يتبع الظن، وعاب تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها، ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية وهذا بالنسبة لطريقة معالجة الدكتور هيكل لسيرة محمد صلى الله عليه وسلم أما بالنسبة للمرجعية التي استقى منها معلوماته، فإنه يقول في هذا في أنه تبين له أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم، فإنه فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبي العربي يتخذها الباحث مناراً يهتدي به في عبثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنة وما جاء في كتب السيرة المختلفة وهو أيضاً لم يغفل عن مطالعة كتب المستشرقين في هذا المجال. وحيث أن هؤلاء اعتمدوا في كتباتهم على ما ورد في بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسين أن أول كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد صلى الله عليه وسلم دسّت أثناءهما في سيرته وفي تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءها الأحاديث المكذوبة، ومع أن المستشرقين يقررون هذه الحقيقة، إلا أنهم يقررون أموراً يعتبرونها صحيحة مع أن أقل تمحيص ينفيها، من ذلك مسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبي، وغيرها من المسائل التي عمد الدكتور هيكل إلى امتحانها وتمحيصها في هذا الكتاب.
ويمكن التأكيد على ما ذكره الدكتور هيكل في أن مضمون هذا البحث الذي هو بين يدي القارئ، ما هو جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها، وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتشيم هذا النور في ثيوزوفية الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى، فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى جميعاً خليقون أن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والاتصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق