حول الكتاب
"لا تطبقي الأجفان عن حلمي فأخيلة المساء وشفاه هذا الليل والأنسام تصدح بالغناء، ومعابد الصفصاف والأوداء تحلم بالضياء. يا زهرة الفردوس في كوخي تنامين المساء، قبلت أحزان الربيع على شفاهك فاهجعي لكن سينبثق الصباح فلا أراك بمخدعي إلا بقايا من دموع قد مزجن بأدمعي، يا صيحة الأعماق في كوخي تعالي واهجعي، أحرقت أجنحة الظلام على لهيبك فاسمعي ما قالت النيران للباكي على حبي معي، ما قاله الينبوع للظمآن: ويك ألا تعي؟ يا حسرة الظمآن! في كوخي تعالي واسمعي. لفي رفات الحب في طيات ثوبك والجناح... واعمي جفون النور في خصلات شعرك في الصباح، وتنقلي في الأرض هائمة على متن الرياح، فوق الضباب الحلو في الوادي إذا انتفض الجناح، لكن سأبحث دون جدوى عنك يا روح الحبيبة، في الصحو في الأحلام في الأحراج في الجزر الغريبة، وأهيم كالمشدوه في صحراء حرماني الكئيبة، وأصبح في نومي وأسأل عنك يا روح الحبيبة".
الخيال ذو قدرة على الصهر والتركيب، أشياء هذا العالم تتناثر داخل نفس الشاعر كما يتناثر رماد ضوء النجوم ويتجمع وتمر عليه تحولات مختلفة، كأن يتحول الوجع إلى صورة؛ لكن هذا التحول لا يمكن أن يتم إلا من خلال اللغة والأداة الشعرية التي تأتي مكتملة. هذه القدرة لا تأتي إلا عبر معاناة طويلة خلال سنوات كثيرة يمضيها الشاعر في محاولة تطويع الأدوات، بحيث يصير الشاعر نفسه جزءاً من هذه الأدوات، ولا تعود هذه الأدوات عناصر خارجية توظيف كأدوات، بل يغدو هو إياها وهي إياه، والمسألة عملية التحام بين الشاعر والقول الشعري، فكلما كانت آلة الشعر الشعرية أكثر حدة وثقة أثناء الكتابة ترتب على ذلك نتائج مهمة جداً. أي أن الحاضر أو الوسيط بين الشاعر والعوالم التي يمتاح منها هي الآلة الشعرية والأدوات. ولكن يبقى من أهداف القصيدة البعيدة جعل الغامض واضحاً، بمقاييس الشعر وليس بمقاييس الفهم. فوظيفة الشعر تقريب البعيد، وإحضار الكلي عبر المجسد وإسكانه فيه.
هو ذا الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي شهدت القصيدة العربية في عطاءاته تألقاً وثراءً وارتقاءً، مبنىً ومعنىً. ومن مآثر البياتي أن شعره مرّ بمراحل متعددة، لكنه في كل مرحلة كان قادراً على تقديم آثار متميزة تبلغ درجة رفيعة من الجودة والتجديد. ففي أباريق مهمشة طرح البياتي أوضاعاً مجانبة عبر شخصيات الجواب والأفاق والمغامر بانياً القصيدة على أنها لوحة تعتمد في تشكيلها الفني على التراكم، والحركة تنشأ من الصراع أيديولوجيتين تمثلهما قوتان أو شخصان أو وضعان.
في المرحلة الثانية (1954-1964) يحارب البياتي بشعره عالماً جاحداً، ويغدو الشعر سلاحاً والشعر نموذجاً للتضحية والمعاناة، ويغدو الاغتيال هاجساً يوحي إليه بصورة الشاعر المشرد القتيل-العائد. فالغريزة الفنية في تلك المرحلة وحدها نمت في الشاعر إحساساً بالموضوعية، والغريزة الفنية وحدها انتقت تقنية "القناع" وسيلة لتحقيق انتماء الشاعر نحو الموضوعية في مرحلته الثالثة "سفر الفقر والثورة" (1965)، حيث تلبس قناع الحلاج فقدم تجربته الروحية في التجلي والشهادة، وفي مقابلها قدم تجربة المعري الفكرية، وفي قصيدة "السفر" قدم رؤيا شاعر معاصر عن الحياة الحديثة، وختم بالمهرج.
وهكذا قدم الشاعر رؤيا النموذج البدئي للتجربة الحضارية العربية بالتدرج: من سمت التجلي والحلول، إلى عالم التفسخ السياسي منظوراً إليه من عقل المعري النقدي، إلى رؤيا الشاعر وبعدها رؤيا المهرج التي تعرض العالم من أسفل محور الإنسانية. هذا على صعيد الموضوع، أما على صعيد الشكل، فقد أضاف الشاعر البياتي إلى تقنياته السابقة تقنيات الرموز الصوفية التي استعملها ابن عربي في "ترجمان الأشواق" فجاء شعره جديداً مجسداً على صعيدي الشكل والمضمون. وللقارئ الاستزادة من إبداعات البياتي من خلال أعماله الكاملة التي بين يديه.
رابط التحميل
الجزء الأول: http://www.mediafire.com/?4y8xcvn2kdjcz1m
الجزء الثاني: http://www.mediafire.com/?rwr9fs536qjzd95
شكرا لكم ايها الفضلاء
ردحذف