حول الكتاب
إن التاريخ الحضاري أو الثقافي للشعوب، لم يكتب إلا في زمن متأخر من القرن العشرين. وتتبدى أحداث هذا التاريخ في صور محيرة من تصادم الحضارات وحوارها. والتخلف ظاهرة متصلة اتصالاً وثيقاً بصراع الحضارات وحوارها. والتخلف ظاهرة متصلة اتصالاً وثيقاً بصراع الحضارات وتصادمها، ذلك أنه نتيجة مباشرة لها، ولتوزيع القوة والهيمنة بين الأمم والشعوب عبر الحقب التاريخية المختلفة.
ولم يتأت لنا أن نفهم ظاهرة التخلف واتصالها بتوزيع القوة بين الأمم إلا في الآونة الأخيرة، وذلك عندما تمّ تحرير مفهوم القوة من محتواه السياسي، وتوسيعه، لما هو ثقافي ونفسي أيضاً. فالتخلف، بهذا المعنى، ليس ضعف جهود التنمية حسب المقاييس الشكلية المتعارف عليها فقط (underdevelopment)، وإنما هو تأخر وارتكاس أيضاً (Backwardness). والتأخر والارتكاس ظاهرتان مستقرتان في التاريخ، وتعنيان تخلف الفكر، أي تأخره عن زمانه وأوانه، وارتكاس الثقافة باتجاهها نحو الماضي والاحتماء به، بما يتناسب مع موقعهما في معادلة توزيع القوة والهيمنة بين شعوب العالم.
ويقصد الباحث بفقه التخلف، ليس الفقه بمعناه الفني الضيق، أي على علم القوانين الشرعية، وإنما الفقه بمعنى تأصيل الفهم بالشيء، ومحاولة تفسيره على أسس موضوعية. والفقه، كما هو مفهوم، هو نتيجة للرأي: أي ما يستنبط من إعمال العقل والفكر الحرّ. وكانت أولى خطوات الباحث على هذا الطريق، وفي هذا الاتجاه، هي تأصيل فهم ظاهرة التخلف بمعنى التأخر والارتكاس، حسب الدورة التاريخية التي تتناوب فيها الأمم والحضارات على الهيمنة على العالم المعلوم، حسب مقومات هيمنتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية، والثقافية والنفسية.
والخطوة الثانية تتمثل في محاولة الباحث لتأصيل ظاهرة التخلف، بمعنى التأخر والارتكاس، تتمثل في تحديد أسباب ظاهرة التخلف في الإطار التاريخي الأوسع، حسب أمثولة القبائل. فيظهر الصراع بين الأمم والحضارات، بسبب رغبة قبيلة في الهيمنة على القبائل الأخرى، ومحاولات القبائل الأخرى مقاومة الهيمنة بشكل متصل ومستميت. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، يبدأ صراع الحضارات وحوارها في مواجهة تاريخية متصلة.
وهذا الصراع وهذه المواجهة التاريخية المحتدمة، يحدثان، سواء كانت القبيلة تملك دولة أو لا تملك، والتي تتكون فيها الطبقات الاجتماعية الداعية لذاتها أو لا تتكون. فالصراع متصل بظاهرة القوة: علاقات القوة، وتوزع القوة حسب مقوماتها، وليس متصلاً بالدول والطبقات. إذ أنه، حسب منظور المركزية الأوروبية، إذا كان التاريخ هو تاريخ الصراع، والصراع هو بين الطبقات، فالشعوب التي لا تتكون فيها الطبقات، تفتقر إلى الصراع الاجتماعي، وبالتالي فهي شعوب بلا تاريخ، بلا حقب وبلا مراحل، فهو فراغ سديمي متصل.
وقد واجه العرب الغرب مرّات عدة على مرّ التاريخ، في بداية القرن التاسع (بعد الحقبة المشتركة) في زمن هارون الرشيد وشارلمان، وثم في الحروب الصليبية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين في مرحلة الإمبريالية والاستعمار، وفي الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 والآراء المدرجة في هذا الكتاب، تنصب على العقدين الأخيرين: المرحلة الموصلة إلى هذه الحادثة الصدامية المتفجرة، والتي تمثل من ناحية بالغة الأهمية تجليات ظاهرة صدام الحضارات وما تولده من مقاومة الهيمنة من ردود أفعال يائسة ومستميتة.
في هذين العقدين الأخيرين، هيمنت على الحياة السياسية ظاهرة العولمة التي أفرزتها ظاهرة المعلوماتية، أو مجتمع المعلومات، والثورة التقنية في الإدارة، وتدفق المعلومات عبر الميديا، وسائل الإعلام المعولمة، وهنا، تكمن الخطورة الثالثة في محاولة الباحث لتأصيل فهم التخلف على أنه التأخر والارتكاس، في إدراك أن العولمة تمثل حقبة جديدة من الهندسة الاجتماعية، أي في إعادة تنظيم الاقتصاد والمجتمع بما يتناسب مع هذه الحقبة من التطور الاقتصادي والتقني-العسكري، والثقافي النفسي. والهندسة الاجتماعية تحدد متطلباتها عملية الصراع من أجل التفوق والهيمنة بين الأمم والشعوب. فجاءت العولمة داعية إلى "العودة" إلى اقتصاد السوق بدلاً من دولة الدعاية الاجتماعية ومؤسساتها.
إن درجة النجاح في تفكيك مؤسسات دولة الرعاية الاجتماعية، على صلة وثيقة بالصراع بين الأمم، ولا تقتضيه فقط المتطلبات الاقتصادية. فالعولمة إحدى وسائل الهيمنة لإدامتها والمحافظة عليها. ومن الطبيعي، حسب أمثولة القبائل، أن تظهر أساليب مختلفة لمقاومة الهيمنة، تطرح بدائل عملية لها. وترافق الهندسة الاجتماعية دائماً هندسة تاريخية، يقوم فيها الطرف المهيمن بإعادة تفسير التاريخ، أو تزويره، حسب منظورات ثقافية، وهذه هي الخطوة الرابعة في محاولة الباحث لتأصيل فهم التخلف على أنه تأخر وارتكاس.
وفي مقابل التفسير "الرسمي" المقبول عالمياً للتاريخ، يتمّ للطرف المهيمن اختراع نفسه مقابل الآخر، فقد اخترع الغرب نفسه في عصر التنوير. وها هو يستبد في تفسير معادلة القوة لصالحه في تعبير: الغرب والبقية، شعوب العالم وأممه مجتمعه مقابل الغرب. وها هو يستبد على شعوب العالم وأممه في تحديد ظاهرة الإرهاب، باستعمال الإرهاب المضاد حسب أطروحة كارل شميت: السياسة هي عبارة عن تحديد الصديق مقابل العدو.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق