الفتوحات العربية في روايات المغلوبين - حسام عيتاني





حول الكتاب

«الفتوحات العربية في روايات المغلوبين» كتاب جديد لحسام عيتاني يصدر حالياً عن «دار الساقي». السطور أدناه هي فاصل من أحد أجزاء الكتاب.

بعد مرور عاصفة الفتوحات الأولى، ظهر لشعوب البلدان المفتوحة أن العرب يريدون البقاء في الأماكن التي احتلوها أو على الأقل يريدون أن يمارسوا سلطة تضمن لهم مصالحهم المادية وتقدم دينهم على الأديان السابقة. الرغبات العربية هذه انطوت على تغييرات مادية وثقافية في واقع المغلوبين.

لقد ألقى الفاتحون العرب الكثير من الأسئلة والأعباء على كاهل الشعوب المغلوبة وعلى أنفسهم في وقت واحد. ولم تعد المجتمعات المغلوبة تواجه مسألة تتعلق بمواجهة عسكرية أو معركة وحصار وحامية بيزنطية أو فارسية في هذه المدينة أو تلك، بل باتت المسائل الأهم اموراً من نوع ملكية البيوت التي يقيم فيها جنود الفتح والأراضي التي تُقطعهم إياها الدولة الاسلامية وحقوق الراعي والجزية والخراج وموقع من أسلم من أبناء المناطق التي احتلها العرب في هرمية اجتماعية لم تخرج بعد من طورها البدوي.

وكان على المجتمعات التي وفد الفاتحون إليها ان تبتكر حلولاً تعيد بها تنظيم أمورها الداخلية التي قرر العرب ألا يتدخلوا فيها تدخلاً مباشراً، لكنهم كانوا يفرضون رقابة صارمة على سيرها لئلا تخرج إلى الحيّز السياسي الذي ظل أرضاً حراماً على غير المسلمين. والحال أن المؤسسات الدينية المسيحية والزرادشتية، وبدرجة أقل اليهودية، لم تجد بداً من رسم حدود لعلاقات أفرادها مع المحتلين أولاً، ومع من يعلن إسلامه من سكان البلاد الأصليين ثانياً. ولم يكن من مفر من انتاج ترسانة كبيرة من الوسائل القانونية اللاهوتية والايديولوجية تهدف إلى الحفاظ على وحدة الجماعة وعلى مرجعية رأسها كممثل أمام الحاكم المسلم وكمدبر لشؤونها اليومية.

وفي الوقت الذي باشر فيه الفقه الاسلامي تلمس الاختلافات بين الاسلام والأديان الأخرى وبناء مواقفه في المعاملات والأصول من المسائل التي أخذت تترى أمام المسلمين. كان «أهل الذمة» يردون على الفتوحات العسكرية بتحصين مواقعهم الدينية وباستنباط وظائف اجتماعية واقتصادية جديدة لهم. فإلى جانب المحظورات والمسموحات في العلاقات بين الفاتحين وأهالي الأمصار والأقطار من غير المسلمين، راح الجانبان ينسجان شبكات معقدة من الآراء والروايات والتواريخ والإجراءات العملية التي تفيد في إعادة تموضع هائل الأبعاد ومتعدد المستويات بدا ملحاً في أعقاب تغير الأحوال السياسية والاجتماعية نهاية القرن السابع.

في الربع الأول من القرن الثامن في إيران، كان رجال الدين الزرادشتيون على سبيل المثال، موكلين بتسيير الأمور اليومية في نواح مثل أصفهان التي كان المسلمون من العرب والإيرانيون قلة فيها. وثبتت مجموعات من قبائل عبد قسيس وحنيفة وخزاعة وتميم وثقيف اقامتها بالتدرج في تلك الأنحاء في انتقال احتوى على همّ تحسين الظروف المعيشية ولترسيخ الوجود السياسي الإسلامي. ومع تعاقب موجات الهجرة العربية بدأت قرى يشكل المسلمون كل سكانها تظهر حول اصفهان لتتداخل بأحياء المدينة في النصف الثاني من القرن الثامن، ما عزز موقع المسلمين فيها ووفّر الأمن لهم من هجمات الزرادشتيين. كانت الصدامات الدينية تتخذ طابعاً حاداَ خصوصاً اذا اشتم منها رائحة العداء للدولة الاسلامية على غرار ما جرى عندما أتهم المسلمون رجال الدين والعامة من الزرادشتيين بمساندة القرامطة، ما حمل الخليفة الراضي على إصدار الأمر باعدام كبير رجال الدين الزرادشتيين أصفنديار إي أدورباب (Isfandiyar Adurbab) اضافة إلى التضييق على عدد من الأعيان الزرادشتيين. هذا قبل ان ينقسم سكان المدينة المسلمين على المذهبين الشافعي والحنفي ويبدأون صراعاتهم الخاصة.

وفي مناطق ايران الجنوبية كان رجال الدين الزرادشتيون يخطبون في العامة قائلين ان «هؤلاء الشياطين المشعثين (المسلمون) مخادعون لا دين لهم. لن يفوا بوعودهم. وليس من عادتهم الالتزام باتفاق ولا بعهد ولا حتى بالحقيقة. لن يضمنوا لكم سلامتكم. لذا لا تشاركوا معهم بأي عهد» على ما ورد في كتاب زند أي فهمان يشت (Zandi awaahman ayaasht) الزرادشتي.

اما في المناطق التي أغلب سكانها من المسيحيين، فكانت الشكوى دائمة من أعمال الخلفاء والأمراء وعمالهم. فالقول بتشدد عمر بن عبد العزيز في معاملة المسيحيين لم يقف عند حدود كتّاب الحوليات المصريين، بل انسحب إلى ما دونه بطريرك انطاكية اليعقوبي والمؤرخ ميخائيل السرياني الذي يقول ان الخليفة بدأ في الاساءة إلى المسيحيين منذ توليه حكم الطائيين وذلك لعلتين، الأولى انه اراد تأكيد الالتزام بقوانين المسلمين، والثانية انه سعى إلى الانتقام لاخفاق العرب في احتلال القسطنطينية. يضيف ان عمراً إلى جانب سمعته كرجل تقي يتجنب الشر، عمل على حرمان المسيحيين من كل شيء لحملهم على اعتناق الاسلام. وإلى جانب الاعفاء من الضرائب على الأنفس (الجزية) لمن يعلن اسلامه، امر عمر بمنع المسيحيين من الشهادة امام القضاة ضد المسلمين ومن امتطاء الخيول مسرجة ومن قرع النواقيس ومن رفع الصوت اثناء الصلاة ومن ارتداء انواع معينة من الملابس تعرف ب»القبية» وغيرها من الإجراءات كالتشدد في منع المسلمين من شرب النبيذ وحتى عصير العنب.


وإذا كانت رغبة عمر في تسريع وتيرة انتقال المسيحيين إلى الاسلام معروفة، فإن رغبته في الثأر لهزيمة الجيش الأموي عند أسوار العاصمة البيزنطية تبدو غير مقنعة، اذ كان عمر الخليفة الأموي الأقل اهتماماً بالفتوحات الخارجية والأكثر تركيزاً على اعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في الدولة العربية. بيد ان هذا لا يعني ان رجال الدين المسيحيين لم يعبروا عن آرائهم الصريحة في الاسلام متى أتيحت لهم الفرصة.

فالكاثوليكوس حنانيشو يعلن أمام الخليفة عبد الملك ان الاسلام «دين أنشأه السيف وليس ايماناً ثبتته المعجزات». ويرى هويلاند ان المسيحيين واليهود كانوا يستخدمون هذه الفكرة لتثبيط عزيمة أفراد طوائفهم الراغبين في الانتقال إلى الاسلام. لكن في المقابل لنا ان نرى خطابين مسيحيين: واحد موجه إلى «الأمير» المسلم يتخذ شكل التسليم بالامر الواقع والبحث عن الأمن للجماعة، وآخر موجه إلى الذات يحض على التمسك بالهوية الدينية أولاً والقومية بدرجة أقل.


وكان استدعاء الخليفة والأمراء لرجال الدين المسيحيين ومحاسبتهم على هفواتهم أو خلعهم وتنصيب غيرهم من الاحداث الشائعة في الكنائس في سوريا والعراق ومصر. لكن الممارسة العربية هذه لم تتأسس على واقع السلطة السياسية والعسكرية القهرية فحسب، بل كذلك على حقيقة تفسّخ الكنائس وصراعاتها الداخلية التي لا تنتهي. فميخائيل السرياني يشير إلى خلافات بين سكان خلقدونيين وآخرين يعاقبة في بلدة سرمدا أثناء تدشين بطريرك انطاكية اليعقوبي، مار الياس، لكنيسة جديدة في القرية، كما يشير الى تدخل أمير حلب المسلم لفض نزاع بين «اتباع بيت مارون» وبين «المكسيميين» حول ملكية الكنيسة الكبيرة في المدينة والذي ادى إلى نشوب القتال بين الجانبين وإلى صدامات داخل الكنيسة. فقام الأمير بنشر الحراس اثناء القداس بعد تقسيم المكان إلى قسمين.

ولئن كانت الأحداث هذه تبدو شديدة المحلية إلا انها تعكس صورة واقعية للأرضية الأهلية التي أقيم الحكم الاسلامي عليها. والعلاقات بين المذاهب المسيحية، المؤسسة على العداء العقيدي، لا تزال إلى اليوم موضوع جدل لا يفتر ولا ينطفئ. فاتهامات ميخائيل السرياني لبطريرك الاقباط بنيامين بتسليم مصر إلى المسلمين انتقاماً من اضطهاد الخلقدونيين وقول ابن البطريق ان سبب عداء أهالي حمص وسوريا عموماً لهيراكليوس هو انه «ماروني» (من أنصار المشيئة الواحدة) وعدو للايمان يثيران حنق المذاهب المسيحية في المشرق حتى اليوم ويتطلبان تخصيص الكثير من الجهود والموارد لتثبيت صورة هذه المذاهب عن ذاتها كحقيقة ناجزة بغض النظر عن روايات مؤرخي المذاهب المنافسة.

ومن الملفت أن العلاقات بين المسيحيين واليهود لم تشهد تحسناً بعد الفتوحات الاسلامية. فاذا امر عمرو بن سعد بمنع ظهور الصلبان خارج الكنائس وفي الزياحات، انتهز اليهود الفرصة وراحوا ينزعون الصلبان عن الكنائس إلى ان اوقفهم عمرو. في المقابل، يشكو البطريرك يوحنا من بنك، أثناء عهد معاوية، من قلة الملاحقات والاضطهاد الديني «حتى لم يعد يُعرف المؤمن من اليهودي».

وبعد فترة وجيزة من الآمال التي علقها المسيحيون على الدولة العباسية، تبين ان سياستها حيالهم لا تختلف كثيراً عن سياسة سابقتها الأموية. فسكان النواحي الشمالية من بلاد ما بين النهرين وسوريا وفلسطين نبشوا القبور وفتشوا في بقايا الأموات بحثاً عن الذهب والفضة أو أي شيء ثمين لدفع الضرائب التي جاء الخليفة أبو جعفر المنصور شخصياً يطالب بها فيما عمّت الأوبئة والمجاعة «ليس بسبب نقص المواد (الغذائية) بل لأن أحداً ما عاد يملك قطعة عملة أو عملاً للفقراء: لأن الأديرة والكناس خُرّبت والبيوت نهبت. فصار ثمن الثور او الحمار قطعة ذهبية، وخمسة مدود من الحنطة بقطعة ومكاييل من النبيذ بقطعة، الصبي أو الفتاة بخمس قطع». وعند وفاة المنصور عمّ الارتياح وقام سكان منطقة الجزيرة بطرد عامله «اليهودي» موسى بن مصعب وعامله الآخر على قنسرين موسى بن سليمان من بيتيهما.

لكن الشدائد هذه لم تكن لتثني رجال الكنيسة المتناحرين عن نصب المكائد لبعضهم. فداود أسقف دارا يسعى بالوشاية عند المنصور ضد بطريرك الجزيرة مار جاورجيوس قائلاً ان الأخير انتخب من دون موافقة الخليفة وان جاورجيوس عند سؤاله عن السبب الذي يجعله يرفض الحصول على شهادة من الملك (الخليفة) كان يرد: «لا اقبل ان يدخل اسم نبيهم في ظرفي» المهم ان القصة تنتهي بالقاء الخليفة البطريرك في السجن تسعة أعوام بعد رفض جاورجيوس تعليم المسلمين الخيمياء التي لم يكن يعرفها أصلاً.

ويروي ثيوفانس المعترف فصلاً عن اضطهاد هارون الرشيد للقائد البيزنطي ثيوفيلوس (Theophilos) الذي أسره العرب أثناء معركة بحرية قرب قبرص ورفض الاستسلام لاغراءات الخليفة «بالتحول إلى خائن» فكان مصيره السيف «وأثبت انه شهيد ممتاز». اما المتوكل فأمر بهدم الكنائس في سُرِّ من رأى (سامراء) و»عامل النصارى أقبح معاملة ومنع من استعمالهم في الأعمال السلطانية وصبروا على ذلك».

وقيل إن السبب يعود في المقام الأول إلى الخلافات بين رجال الدين المسيحيين والمنافسات في ما بينهم ووشايتهم ببعضهم امام الخليفة الذي عُرف في المصادر الاسلامية بميله إلى التشدد في الدين. في موازاة هذه الأحداث، كان أدب كامل عن العلاقات بين المسلمين و»أهل الذمة» يتطور ليشمل سير الشهداء الذين قضوا على أيدي المسلمين وعدد من المتنصرين الذين تركوا الاسلام وفضلوا المسيحية، خصوصاً عليه، وليشمل عهوداً قطعها الحكام المسلمون لقادة الكنائس وسوى ذلك من نوع قصص عن «صداقات» كان يقيمها المسلمون مع الشياطين الذين يساهمون في معارك المسلمين وفي اضطهاد المسيحيين.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق