الدين فى شبه الجزيرة العربية - أبكار السقاف


 حول الكتاب

الدين في هذا الجانب المتضوع بشذى الإرهاف، والسابق بأرج الحرية والطلاقة، والمحتضن شمالاً بادية الشام، والمحتضن بالمياه من جهات ثلاث، شرقاً بالخليج الفارسي وبحر عمان، وجنوباً بالمحيط الهندي، وغرباً بالبحر الأحمر، راوية ترويها للزمن أنفاس راوية: إن للدين تاريخاً بدأ على هذه الناحية من الدنيا مذ بدأ العقل الإنساني يحفر بين تهم تهامة وأنجاد نجد وسهوب الجنوب وسهول الشمال خطاه متمثلاً بالعنصر العائد بأصله إلى سام بن نوح، والعائد بسكنه شبه الجزيرة إلى آباء قبليين دفعهم إلى هذه الفرافد والفيافي للفرات في "جنات عدن" هدير "الطوفان" ونشرهم مرور الزمن على هذه الأرجاء قبائل تجمع العمائر، وعمائر تجمع البطون، وبطوناً تجمع الأفخاذ، وأفخاذاً تجمع الفصائل، فعلى صفحة "اليمامة" انتشرت القبائل من أبناء جديس وطسم وفي "الأحقاف" سكنت القبيلة التي تفرعت من أبناء عاد وفي "الحجر" و"وادي القرى"، فيما بين الحجاز والشام، ترابطت الفروع التي انحدرت من أبناء ثمود، وأما في الشمال الغربي، بين تهامة ونجد، فمرحت في استعلاء قبائل تعود بأبوتها إلى مالق بن لاوذ وهم من نعرفهم في سجلات التاريخ القديم بالعمالقة غداة أضيفت كلمة "عم" العبرية وهي تؤدي معنى أمة إلى أبناء مالق، بينما راحت قبائل أخرى من العنصر نفسه تذرع البوادي وتجوب السباسب من جنبات هذه الرمال وكل منها تحمل اسم أبيها القبلي وتضفي بدورها اسم هذا الأب على ما قد اختارته من مكان في فسحات هذه الأرجاء... ومن هؤلاء كان أبناء عُبيل وكانت ديارهم "بالجحفة" بين مكة ويثرب، كما أن من هؤلاء أيضاً أبناء أميم ومدين وثابر وجاسم وحضوراء. ولكن! يد الزمن التي امتدت، والتاريخ ليلاً، فدفعت من وادي الرافدين هؤلاء الآباء القبليين، وعلى هذه الأرجاء، نشرت منهم هذه الفروع إنما كانت كأنها اختطت خطة وحددت هدفاً وكأنما في مخيلة الزمن كانت حاضرة وبدقة مرسومة أحداث الآتي! فهي بينما كانت تشر وتطوي هذه القبائل، ليعرفهم التاريخ من بعد "بالعرب البائدة" كانت تلقي بهم في تربة الآتي بذور "العرب الباقية" من "عرب عاربة" و"عرب مستعربة" مختارة من بين كل هؤلاء الآباء القبليين العائدين بنسبهم إلى سام بن نوح، قحطان بن عابر، وعابر هو هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فليس إلا من قحطان قد انداح الليل عن هذه الناحية من الدنيا غداة أشرق التاريخ بإبنيه: يعرب... مؤسس مملكة اليمن، حيث سطعت على الدنيا حضارة بعد حضارة توالت وولت بتوالي الدولة المعينية فالسابئية فالحميرية، ومن أضفى اسم على شبه الجزيرة فأصبحت تعرف ببلاد العرب. وجرهم... مؤسس مملكة الحجاز حيث في هذا الوادي المحجوز بجبال خندمة شرقاً والمعلّى شمالاً والحجون غرباً ومنحنيات أبي قبيس جنوباً، أسس ملكاً حجبته العمالقة بظلالها لفترة انتهت برواحهم عن هذا وانتشارهم في أرجاء الشرق القديم، فمنهم "الجبابرة" في الشام المعروفين باسم الكنعانيين، ومنهم كان الملوك الرعاة الذين عرفوا في التاريخ المصري القديم باسم "الهكسوس"، هذا بينما راحت يد الزمن تدفع مرة أخرى جرهم أو هذه القبيلة القحطانية التي ما لبثت أن هبت ومن جديد احتلت هذا الوادي، ومن ثم كان التفريق التاريخي بين جرهم هذه الآخرة التي عرفت في التاريخ السياسي العربي القديم بجرهم الثانية. ويُجرهم عَمَر من أودية شبه الجزيرة هذا الراوي الحاجز بين تهامة ونجد، والحائل بين اليمن والعروض فصيغت بهذه القبيلة القحطانية حلقة وصل الشام بالمحيط الهندي عن طريق سلسلة من القوافل التجارية. الشأن كان شأن هذا الوادي في العهد الجرهي الآخر.. العهد الذي لا تسلط عليه الباحثة في التاريخ الديني الأضواء في كتابها هذا، إلا وعلى هدي "القلم المسند" والنقوش البابلية في الألف الثالث ق.م التي ذكرت الدولة المعنية، ورشاش قد أصاب هذه القبيلة القحطانية من طوفان ذلك الارتحال "العراقي-السوري" الذي اشتد أبان النهضة السامرية بين الرافدين وفي أعقابها وبالتحديد في غضون القرن التاسع عشر ق.م. فالباحثة لا تسلط الأضواء على هذه القبيلة القحطانية التي اتخذت من هذا الوادي القائم في ملتقى طرق القوافل التجارية المتلاقية من الشمال والجنوب مسكناً إلا وتناول يد الزمن سجلات محفوفة بالقدسية وعليها جلياً يلحظ القارئ أن بين هذه القبيلة قد هبط إبراهيم بإسماعيل وله من العمر ثلاثة عشر عاماً مقبلاً به من تلك البقاع التي إليها قد نزح في أعقاب النهضة السامرية وعهد "أورنامو"، غداة ترك إبراهيم "أور" وطناً وإلى تلك الأرض التي بلغ فيها منشود الثراء المادي وأصبح مرهوب الجانب ومخطوب الود بين الآباء القبليين ارتحل، فليس إلا على هذه السجلات المغلفة بالقدسية نرى أن لهذا الوادي قد اختار إبراهيم ليقيم لإسماعيل ملكاً وضع منه الأساس لحظة انعقدت صلة إسماعيل بجرهم عن طريق ابنه سيد جرهم، وأما الصرح من هذا الملك فقد قام فيما بعد عقد هذه الرابطة بفترة من الزمن سجلتها تلك اللحظة التي وقف فيها إبراهيم على أنقاض معالم قديمة لمعبد عتيق يرسل الصوت في الأرجاء الجرهمية ليروح بينها أصداء تدوي بأن إليه قد صدر الأمر الإلهي ليقيم للإله بيتاً... ومن ثم كان قيام هذا "البيت" الذي حتمت لغة بانيه أن يطلق عليه اسماً بابلياً، ولما كانت الكلمة البابلية للبيت هي "مكة" فقد عرف الوادي نسبة إلى "البيت" بالاسم البابلي للبيت، الذي بنشأته كبيت قدسي بدأت حوله تقترب الفلول الجرهمية لتستقر بجانبه به متبركة ولتبدأ في تاريخ المدن مدينة تحمل اسم "مكة". ضمن هذه الرؤية اختارت الباحثة متابعة الحركة الدينية وذلك ضمن المراحل التطورية للإنسان في شبه الجزيرة العربية.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق