حول الكتاب
يقوم المفكّر الاجتماعيّ بيير بورديو في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول بقراءة لاذعة ولاسعة للتلفزيون هذه الآلة الجهنمية التي دخلت كلّ بيت وقامت بتشكيل مزيّف لرأي عام محكوم بما يرى لذا يسعى إلى تفكيك هذه الآلة وتبيان الإيديولوجيات الخفية المتوارية في تفاصيلها العادية، والبسيطة. هذا البسيط الذي لا يثير الانتباه ينطوي على خبث دفين يتسرب بمكر إلى أذهان المشاهدين على أساس انه خبر من الأخبار المتفرقة طورا أو حدث من الأحداث العادية طورا آخر، أو حتّى يتبدى كمجرد لعبة رياضية ولكن بروح تجارية خفية. فلا شيء يخضع لمزاج الصدفة في الزمن التلفزيوني المحسوب بالثواني.
يلحظ القارىء كثرة ورود كلمة المخفيّ أو غير المرئي على الشاشة المرئية على امتداد صفحات الكتاب، لأن بيير بورديو لم يكن يريد الاكتفاء بدراسة الظاهر من الظاهرة وإنما يريد القبض على الخيوط الخفية والكواليس التي تحرك هذه الآلة المركبّة التي تحوّلت إلى سلاح فتاك.
ينطلق الكاتب من جملة أفكار منها خطورة التلفزيون على الإنتاج الثقافيّ من فن وأدب وعلم وفلسفة وفنّ وقانون، وخطورته أيضا على الديمقراطية والحياة السياسية (فهو يدرس التلفزيون الديمقراطي أي التلفزيون الذي يبثّ في دول غربية ديمقراطيّة الظاهر ) بسبب انه وقع تحت سلطان السوق، واللهاث وراء الإقبال الجماهيري. انّ مجرد «فكرة ما يطلبه الجمهور» جعلت من التلفزيون أداة خطرة، ومرهونة، وعرضة لشتى الانحرافات. ويتوقف الكاتب عند حالات كثيرة ونزاعات دوليّة استغلها التلفزيون لتنمية حصته في السوق دون أي اعتبار للمسائل الأخلاقية. وهذه طرائق وأساليب تحول الناس إلى وقود عاطفي وعنصري وشوفيني وتجعلهم ضحايا مشاعر قومية دامية فيشير إلى ما فعلته محطّات التلفزيون أمام حادثة بين اليونان وتركيا وكيف اشتعلت التلفزيونات اليونانية والتركية وألقت بكامل ثقلها التجاريّ في المعركة عن طريق استغلال المشاعر الأوّلية، الغريزية وسكب الزيت على نارها الكأمنة في سبيل رفع منسوب المشاهدة مع ما يعنيه ذلك من قضم حصة اكبر من سوق الإعلانات.
ومن خلال مراقبته للبرامج الحوارية يرى ان الخطاب الجيّد مستبعد من التلفزيون على افتراض انه مضجر، أو متمرد على لعبة السوق. ان «عقلية الأوديمات« audimat، كما يقول الكاتب أي عقلية نسبة الإقبال على البرامج هي التي تفرض شروطها على البرامج وتحدد اولوياتها ومصيرها. ولم يعد مقياس الجودة هو الجودة نفسها وإنما عدد المشاهدين، أي ان القيمة الافتراضية لم تعد تنبع من داخل الشيء وإنّما من خارجه، وهذا التغيير في موقع القيمة جرّ هذه الأداة إلى خارج حلبتها وأسقطها في المساومات والتنازلات على حساب الجودة نفسها. والكاتب لا يرى فرقا بين برامج «التوك شو» وحلبة المصارعة على الإطلاق، بل انه حين يغوص في تفاصيل الكواليس ليقرأ ما يدور في الخفاء، ويدرك مدى الخداع الذي تقوم به هذه البرامج. القيمة لا يكتسبها البرنامج من قيمته وإنما من قيمة العدد أي ان الكمّ هو صاحب الكلمة الفصل، ليس لأنه كمّ فقط وإنما لأن الكم محكوم أيضا بسوق الإعلان الذي لا يرى العالم إلاّ أرقاما وأعدادا.
ويعتبر بيير بورديو ان بعض من يشارك في البرامج يتنازل من حيث لا يدري عن جزء مهمّ من حريته. وما يسقط بعض المشاركين في هذه التنازلات هو الإذعان للرغبة الفطرية النرجسية ربّما لدى بعض من يكثر ظهوره إلى التلفزيون، فالبعض لا يظهر على شاشة التلفزيون لأن عنده كلمة يريد ان يقولها وإنما لكي يشاهَد ويصير موجودا، فالتلفزيون أصبح وسيلة إثبات هوية ووجود، ويستشهد بكلام لبيركلي يقول فيه «ان تكون هو ان تُدرَك من قبل الآخرين». من هنا يذهب بعض الكتاب كما لاحظ جيل ديلوز إلى تأليف كتب لا تكون وظيفتها الأساسية بلورة فكرة أو تحليل ظاهرة وإنما يكون الباعث الخفيّ تأمين دعوة صاحب الكتاب إلى نعيم البرامج التلفزيونية مما جعل من شاشات التلفزيون اليوم نوعا من «مرآة نرجس»، ومكانا لاستعراض الذات بحسب قول الكاتب.
وفي فصل بعنوان «النقود والتفكير السريع» يتوقف الكاتب عند تلك العلاقة الملتبسة بين التفكير والتلفزيون، أو بين عملين لا يمكن لهما ان يتلاقيا على شاشة التلفزيون وهما التفكير والسرعة. ويقول ان احدى المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون على المفكرين هي العلاقة بين التفكير والسرعة. ان التلفزيون مقيّد بالسرعة. سلعته هي أيضا الوقت. كيف يوائم المثقف الذي يستضيفه التلفزيون بين التفكير والسرعة؟ هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟ ان التلفزيون بحاجة لمفكرين من طراز خاص، قادرين على التفكير بأسرع من ظلهم كما يقول بيير بورديو.
هل وجد التلفزيون المعادلة التي توفق بين السرعة والتفكير؟ يقول الكاتب ان الحلّ كان في الاعتماد على التفكير السريع fast thinking الذي يشبه الوجبات السريعة. ماذا يعنى ذلك؟ هل هو إدانة لطبيعة التلفزيون، أم إدانة للذين يشتركون في برامج تلفزيونية؟ ان الكاتب في غير مكان يدين المثقفين الذين أغوتهم الأضواء على حساب التفكير ورضوا بدخول لعبة الكاميرا لتلميع «صورتهم» على حساب الأفكار لأنهم يجترون، كي يوفقوا في التوفيق بين التفكير والسرعة، الأفكار الشائعة وهي أفكار سهلة الهضم لا تحتاج إلى وقت تحضير، وجاهزة يتقبلها الجميع بل يحتاج إليها الجميع حاجتهم إلى الحافلات العمومية، وهي أفكار ترضي أيضا القيّمين على شؤون البرامج لأنّها أفكار تجلب المكاسب لا المتاعب.
ويشير الكاتب إلى ناحية جوهرية في التفكير بحسب رأيه وهي ان «التفكير من حيث التعريف مخرّب» أي ان التفكير هو على نقيض الأفكار الشائعة والرائجة والمتداولة والتي تشبه الأماكن العامة يتلاقى حولها الجميع. ان التفكير كما يقول الكاتب يعني تدمير الأفكار الشائعة أو تفكيكها أو إظهار خوائها وهذا لا ريب يتطلب وقتا لا يمكن للتلفزيون ان يوفره ولهذا نرى التلفزيون يلجأ إلى المتخصصين بـ «الفاست فود الثقافي» أي الوجبات المعدّة مسبقا ولا تحتاج إلى فترة طهي أو تحضير.
يعتبر الكاتب ان أغلب الندوات التلفزيونية مزيفة وخصوصا تلك الحامية في الظاهر التي تقدم لك وجهات نظر متعارضة. ويرى ان هذه الندوات أشبه بلعبة تشارك فيها شخصيات تعرف بعضها بعضا جيّدا، بل تربط بينهم أحيانا صداقات حميمة إلا أنهم حين يدخلون إلى الندوات يلبسون أقنعة المتخالفين. ويشير بورديو إلى الكتاب الذي قام بتأليفه جاك جويار تحت عنوان «عام المخدوعين»، الذي يتناول كل خدع الندوات التي تشبه من نواح كثيرة الخدع السينمائية فالذي تراه ليس إلا تمثيلا متقنا لا تفضحه كما يقول المؤلف إلا لغة الحركات والإشارات. وهذه النقطة انتبه إليها علماء الاجتماع ـ كما يقول بورديو ـ أي الانتباه إلى «الحديث بلا كلمات الذي يتم اثناء الحوار بالكلمات» باعتبار ان المتكلم يمكنه ربما بسهولة ان يتحكم في مفردات فمه ولكن يصعب عليه التحكم بمفردات جسده من نبرة أو نظرة أو نغمة صوتية. ويقول الكاتب ان الحوار الديمقراطي على الشاشات يستلهم نموذج «المصارعة الحرة» حيث يجب ان تكون هناك مواجهات وتحرشات وفي الوقت نفسه فان كل الضربات غير مسموح بها.
الكتاب لا يكتفي بالحديث عن التلفزيون أو ان التلفزيون لا يمكن له ان يكون منفصلا انفصالا تامّاً عن غيره من وسائل الإعلام كالصحف المكتوبة خصوصا. ويتكلم عن التواطؤ المضمر بين الطرفين أو المنفعة المتبادلة بينهما، فأغلب الصحف تخطب ودّ التلفزيون عن طريق تخصيص صفحة لبرامجه وهذه وسيلة يستغلها بعض الكتاب للوصول إلى سحر الشاشة الصغيرة التي تعزز بدورها من رأسمالهم الرمزيّ.
ان الكاتب يكشف خلال كتابه عبر أدوات نقدية جريئة دهاء البراءة المعلنة لبرامج تلفزيونية كثيرة ويظهر قدرة التلفزيون على ان يغيّرك وأنت لا تدري وان يخرج من فمك كلمات وآراء تظن أنّها آراؤك وكلماتك ولكنها في العمق ليست منك. أليست ذروة الخداع التلفزيوني هي ما بدأ يتسرّب إلى الشاشة تحت اسم ضالّ ومضلّ وهو «تلفزيون الواقع» وليس له في العمق من الواقع إلا الوجه المخادع المشغول بحنكة عالية في كواليس سلطان السوق؟
رابط التحميل
شكراً لجهودكم إخوتي
ردحذفاللة ينور
ردحذفاللة ينور
ردحذف