حول الكتاب
- يقول د.مراد بمقدمة الكتاب: إن قضية الأصولية والعلمانية هي “قضية العصر لأن ما تعانيه البشرية الآن من عنف وإرهاب وقتل, وأنشطة اقتصادية غير مشروعة إنما هي تفريعات للأصولية في علاقتها العضوية بالرأسمالية الطفيلية…وإذا كان التنوير علماني الطبع فإن الأصولية نقيض العلمانية”
ينقسم كتاب د.مراد وهبه إلى أربعة محاور كبرى قام المؤلف من خلالها بضبط إشكالية العلاقة بين الأصولية والعلمانية في سياقات مختلفة
المحور الأول (“ما الأصولية؟”) يتساءل المؤلف عن دور الدين في عالم اليوم الذي تطبعه الرؤية الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل أي يطبعه التوجه بجهة الوحدة. من ثمة تبدو للكاتب أهمية التساؤل في العلاقة بين الوحدة والكثرة فيميز بين منحين اثنين
- الأول “يأخذ بوحدة الوجود فلا يميز بين الواحد والكثير…وهو حال الثقافات الهندية واليونانية” وغيرها
الثاني ويرتكز على الفيض, أي “على أن الواحد بسيط إلى الحد الذي ينفي عنه التعقل والفهم. بالتالي فمن الكثرة يولد العدد والكم والكيف. وقد تأثر بها ابن سينا والفارابي فأبدعا نظرية العقول العشرة”
هذه الإشكالات لم تعد مطروحة اليوم يلاحظ المؤلف. المطروح أساسا وتحديدا هو العلاقة بين سلام العالم وهذه الكثرة من الأديان
بالانطلاق من جون لوك الذي يميز بين الحكومة المدنية وأمور الدين يقول الكاتب أن هذا الفصل “هو نتيجة العلمانية وليس سببا للعلمانية. فالعلمانية نظرية في المعرفة وليست نظرية في السياسة لأن العلمانية بحكم تعريفي لها هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق”
وينطلق المؤلف أيضا من فكرة التنوير كأساس للعديد من فلسفات القرن 19 ويوضح كيف أن التنوير كان منذ البدء ناف لملاك الحقيقة المطلقة. ويرجع الأصولية إلى مشتقها اللغوي الذي هو “الأصول”. وهو مشتق من مصطلح أساس بالإنجليزية وأول من استخدمها هو رئيس تحرير مجلة “نيويورك وتشمان”, في افتتاحية عدد يوليوز من العام 1920, “حيث عرف الأصوليين بأنهم أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول”, أي العودة للمطلق المسيحي مثلا, فيما يخص الحركات الأصولية الأمريكية. وهو نفس موقفها من العلم الحديث, المتمثل في نظرية التطور: “هو علم زائف لأنه يضعف سلطة الإنجيل. فإذا لم يكن الله خالقا للعالم في ستة أيام فسفر التكوين باطل. وإذا كان سفر واحد باطلا فأسفار العهد القديم برمتها باطلة”
كما أنها تناهض المدنية الجديدة, التي أفرزت البيروقراطية. “والبيروقراطية تضعف التواصل البشري. ومن ثم, فهي ضد الدين, الذي من وظيفته تقوية العلاقات البشرية. ولهذا, فشعار الأصولية المسيحية هو: خلق الله القرية, وصنع الإنسان المدنية”
أما بالنسبة للأصولية الإسلامية, فقد اختار المؤلف ثلاثا من كبار مفكريها: أبو الأعلى المودودي, وسيد قطب والخميني
ويعتبر المؤلف أن قيمة المودودي إنما تأتي من كونه منظر الأصولية الإسلامية بامتياز, سيما بكتابه “الحكومة الإسلامية”. بهذا الكتاب, يحدد المودودي خصائص هذه الحكومة. إذ “الحاكم الحقيقي في هذه الحكومة هو الله. والسلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده. ويترتب على ذلك أن ليس لأحد من دون الله, حق في التشريع…والقانون الذي جاء من الله, هو أساس الدولة الإسلامية”. والحكومات التي لا تحكم بما أمر الله, لا يجب طاعتها
الدولة, وفق المودودي, “ثيوقراطية ديموقراطية”. أي أن الديموقراطية هنا مقيدة بسلطان الله, عكس الثيوقراطية المسيحية المستندة لطبقة من الكهنة, تشرع للبشر حسب أهوائها وأغراضها…في حين أن الحكام بالدولة الإسلامية يكتفون بتنفيذ القانون الإلهي. هم نواب عن الحاكم الحقيقي…وكل من قام بالحكم على الأرض, إنما هو خليفة الحاكم الأعلى
ويتابع الكاتب, على لسان المودودي: “إن الديموقراطية العلمانية الغربية تزعم أنها مؤسسة على سلطة الشعب, ولكن ليس كل الشعب مشاركا في التشريع أو إدارة الحكم, ثم إنها فصلت الدين عن السياسة بسبب العلمانية, فلم تعد مرتبطة بالأخلاق”
ويعاتب المؤلف على المودودي عدم دقته في تحديد مفهوم العلمانية. فهو يتصور أن هذه الأخيرة هي فصل الدين عن الدولة, في حين أن العلمانية “في جوهرها, هي التفكير في الأمور الإنسانية, من خلال ما هو نسبي, وليس من خلال ما هو مطلق”…أي عدم إطلاقية ما هو نسبي
والمودودي يتصور أن العلمانية مفهوم خاص بالحضارة الغربية, “وهذا يعني القسمة الثنائية للحضارة إلى حضارة غربية وحضارة إسلامية, في حين أن الحضارة واحدة مع تعدد مستوياتها, ومسارها يتجه من الفكر الأسطوري إلى الفكر العقلاني, والعقلانية هي المعبر إلى العلمانية”
أما سيد قطب, فيزعم أن المجتمع إما أن يكون جاهليا أو إسلاميا. والجاهلية, بتصوره, هي أن يشرع الناس لبعضهم البعض, دونما الأخذ بما أمر به الله. ويضيف سيد قطب, أن المجتمعات القائمة اليوم تصنف ضمن المجتمع الجاهلي: المجتمعات الوثنية (الهند واليابان…) واليهودية النصرانية, والمجتمعات المسلمة, التي تعلن جماعات بها عن علمانيتها
بالتالي, يعلن سد قطب أن الألوهية والعبودية لله وحده, لا لسواه أو بإشراك لأحد معه. بهذه الحالة, نحن بإزاء مطلق أصولي معادي للعلمانية لدرجة الذم, على اعتبار أن العلمانية “هي نفي لسلطان الله, في مجالات الحياة برمتها”
أما الخميني بكتابه “الحكومة الإسلامية”, فيربط السلطة السياسية بالأهداف الإسلامية, ويركز على ولاية الفقيه, ويقترح “برنامجا عمليا لتأسيس الدولة الإسلامية”
ويعتبر الخميني أن سمات العالم الحاكم المسلم, هي استناده على الشريعة الإلهية, وليس على الإرادة الإنسانية. وأن هذا الحاكم هو الفقيه العادل. مفهوم الفقيه العادل يبين هنا, المطلق الأصولي للخميني, ومن ثم “يتطابق النسبي مع المطلق النسبي, وذلك بإحالة النسبي إلى المطلق, أو بالأدق بمطلقه النسبي”
بامتداد لذلك, يرى علي شريعاتي أن أسس الإسلام هي التقية, والخضوع للإمام والاستشهاد. وهذا الأخير هو أهمها, لأن المسلم يذهب للحرب دون تردد. يختار الموت ولا تختاره…والمسلم الحق هو الشهيد
أما الأصولية اليهودية, فقد تأسست عقب حرب العام 1967 من لدن حركة “جوش أمونيوم”, وتعتبر دولة إسرائيل دولة “مقدسة”, و”التنازل عن أي جزء من الأرض هو “هرطقة”, لأن أي جزء هو “منحة من الله”…هذه المنحة ليست مردودة لليهودية فحسب, بل وأيضا “للدم الذي أهدر في حروب إسرائيل من أجل وجودها”…هي ترى أن اليهودية هي الضامن الوحيد لإسرائيل. وهذه الأخيرة هي الضامن الوحيد للأولى
هي إذن ترفض الانصياع للدولة طالما لم تتبن المعايير الأخلاقية الصارمة
يبدو من هذه الأصوليات (وغيرها) أنها ليست فقط عنصر ممانعة للرؤى الكونية الجديدة فحسب, بل تهدف أيضا إلى تشكيل العالم, استنادا لمقولات ثلاث: العنف والإرهاب والثورة…هي كلها تمزج المطلق بالنسبي, والحقيقة الأبدية بالحقيقة العابرة…هذا التصور مرتكز على نفي الدوغمائية من الدين, ونفي العقائد. بالتالي, فهي لا يمكن أن تتجاوز, لأن المطلق بحكم طبيعته لا يقبل التعدد, وتعدد المطلقات مهدد للمطلقات
+ بالمحور الثاني (“ما العلمانية؟”) يرجع المؤلف هذه الأخيرة إلى اشتقاق علم من العالم. ويقول أن “الصراع في أوروبا, في القرنين السادس عشر والسابع عشر, حيث كان يعيش كوبرنيك ثم جليليو, كان بين الأصولية المسيحية, التي تلتزم حرفية النص الديني, وترفض إعمال العقل, وبين العلمانية التي تلتزم تأويل النص الديني, في ضوء إعمال العقل”
بعد ذلك, أتى مارتن لوثر كينغ وإصلاحه الديني, الذي ربطه بضرورة تدمير ثلاثة أسوار, إذا أريد للإصلاح الديني أن يبزغ: سور السلطة الدينية التي تتحكم في السلطة العلمانية بجهة مساواتهما, والسور الذي يعتبر أن السلطة الدينية هي السلطة الوحيدة التي من حقها فهم النص الديني (تكسير هذا السور يأتي من إعطاء الحق لكل إنسان أن يفكر ويفهم), وسور عصمة البابا عن الخطأ (تكسير هذا السور معناه, أنه إذا أتى البابا بفعل مضاد لتعاليم الإنجيل, فالمفروض الوقوف ضده)
بالتالي, يقول المؤلف بناء على العديد من آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع, فإن العلمانية إنما تستوجب رفع القداسة عن تحديد العالم الاجتماعي, وانفصال المؤسسات الدينية عن المؤسسات العلمانية, وتحول المعرفة الدينية إلى المجال العلماني
بالمحصلة, يلاحظ الكاتب, فالعلمانية إنما هي “التفكير في النسبي بما هو نسبي, وليس بما هو مطلق”, وتناول الظواهر الإنسانية, والتي هي نسبية بالضرورة, بمنظور نسبي وليس بمنظور مطلق
بالمحور الثالث (“الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط المعاصر”), ينطلق المؤلف من ضرورة “تحليل الأصولية على أنها مرادفا للأصالة والراديكالية, وتحريك الرمز الديني لإثبات الذات”. ويستشهد بمحمد أركون, الذي ينادي بالعلمانية, باعتبارها “الوسيلة العظمى أمام المجتمع الإسلامي, لتحقيق التقدم والحداثة…ومن هذه الزاوية, فإن العلمانية تستعين باللبيرالية في مجالات الاقتصاد والتعليم والأخلاق”
إلا أن هذا الطرح لقي مناهضة كبيرة من لدن العديد من الفئات الاجتماعية الإسلامية, “باعتبار أنها تمثل إيديولوجيا غربية وخطرة ومعادية, وممتزجة بمفاهيم الإلحاد والمادية”…وهو ما كان خلف نشوء الحركات الأصولية, التي ترفض “النظرية الإلحادية العلمانية”, وتتشبث بأن “الإسلام هو دين العلم والحضارة”, وبمركزية “تأسيس العلم على أعمدة الإيمان”
بالتالي, فنحن هنا إنما بإزاء أصولية, تتطلع إلى تنقية المجتمع العربي/الإسلامي مما لا يتفق مع القرآن وأحاديث النبي, وأيضا تنشد تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مجالات الحياة, لا التضحية بالدين في مقابل التقدم العلمي والتكنولوجي
إن الواقع, يقول المؤلف, يثبت أن العلمانية إنما هي أوروبية بامتياز, وتغيأت فصل الكنيسة عن الدولة, دونما اهتمام بالديانات الأخرى, وأن انبهار بعض المثقفين العرب بها, والمطالبة بتطبيقها بسياق مختلف, هو سلق لها
والملاحظ, يقول المؤلف, إن برنامج هذه الحركات (بتونس أو بالسودان أو بالمغرب أو بالسعودية أو بغيرها) لا يمس مبادئ الإسلام أو عقيدته, ولكن يطاول المؤسسات المطلوب إصلاحها كالمساواة أمام القانون, واعتماد الاقتصاد الإسلامي كطريق ثالث بين الرأسمالية والشيوعية وغيرها
وعلى الرغم من اشتداد الصراع بين الأصوليين والعلمانيين, فإن ثمة تراجع للثانين أمام الأولين…أي أمام “الأصوليين الجدد”, سيما بعدما نجح هؤلاء في التأكيد على أن “الإسلام على غير الأديان التوحيدية الأخرى, لا ينشغل فقط بخلاص الإنسان, وإنما ينشغل أيضا بالحياة الدنيوية, وبتنظيمها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا”
ويقول المؤلف أن مشكلة الأصوليين هي, في جزء منها, من تحويلهم لكل ما هو تاريخي إلى مطلق, خصوصا عندما يؤكدون على أن الإسلام قد حمل أجوبة لكل المشاكل, وأيا ما تكن الأزمان. بالتالي, فرفضهم للعلمانية لا يتأتى فقط من الزاوية الدينية, بل وكذلك من الناحية المعرفية
ويري المؤلف أن “جوهر الأصولية, هو الاعتقاد بأن العالم برمته وليس مجرد الجزء الديني منه, ينبغي أن يعكس مصدره المقدس”
+ بالمحور الرابع (“الأصولية وما بعد الحداثة”) يقول المؤلف: “إذا كانت الأصولية ضد العلمانية, وإذا كانت العلمانية هي سمة الحداثة, فالأصولية ضد الحداثة”. والمقصود بالحداثة, يقول المؤلف على لسان دانييل بيل, هي “الابتعاد عن سلطان الماضي, وتقلص مجال المقدس, والأخذ بالروح النقدية في المعرفة الشاملة”
ويتساءل المؤلف: هل ما بعد الحداثة ضد الحداثة؟ ويقر بأن لفظ “ما بعد” يعني تقليديا الاتصال دون الانفصال, كما هو الشأن مع ألفاظ “ما بعد الطبيعة”, و”ما بعد المجتمع الصناعي” و”مابعد التاريخي”, وغيرها
الحداثة يقول الكاتب (بالارتكاز على قاموس أكسفورد) “تعني المناهج الجديدة, والاعتقاد في العلم والتخطيط والعلمانية والتقدم, واشتهاء التماثل والنظام والتوازن, والثقة في التقدم بلاحدود”
ويقدم المؤلف العديد من الكتاب الذين اهتموا بهذه الإشكالية, ويخلص من ذلك إلى مقولتين أساسيتين: اللاعقلانية واللاتأويل, فيقر بأن الذي يقف ضد العقل يقف ضد التأويل, لأن العقل وعي بالعالم, في الوقت الذي لا يعي هذا الأخير ذاته. العقل فاعل في العالم, وليس فقط معيدا لإنتاج صوره
وعلى هذا الأساس, فإن “الصراع بين الحداثة وما بعد الحداثة يدور على قبول التأويل ورفضه”
ويختم بالقول: “إذا كان رفض التأويل هو العلاقة المميزة لما بعد الحداثة, فيمكن القول بأن ثمة علاقة عضوية بين ما بعد الحداثة والأصولية الدينية, من حيث أن الأصولية الدينية ترفض تأويل النص الديني, لأنها تلتزم بحرفيته".
رابط التحميل

0 التعليقات:
إرسال تعليق