حول الكتاب
إن ما يحتاج إلى مزيدٍ من البحث والتدقيق هو الحالات التي تؤدي إلى الثورة. متى يتحرك الشعب؟ واذا تحرك فما الذي يحوّل الاحتجاج أو الانتفاض الشعبي إلى ثورةٍ تستهدف مجمل النظام السياسي؟ وهذه أسئلة لا نعتقد أنها تؤدي إلى نظريةٍ في الثورة.
ولا نعتقد أن المحاولات لتأسيس نظرية في الثورة مفيدة. فالكتابات النظرية عن الموضوع مشتقة غالباً من ثورةٍ تاريخيةٍ أو ثوراتٍ بعينها. إنها تعمّم استخلاصاتها من ثوراتٍ معيّنةٍ. إنها نوع من الاستقراء القابل للدحض دائماً، أو القابل للتطوير بشكل مستمر. ويصعب من دون تعسفٍ إطلاق تسميةٍ نظريةٍ على مجمل التنظير الذي تراكم جراء دراسة الثورات المختلفة في التاريخ.
فالعوامل الخاصة التي تتحكم في حركة الناس وانتفاضهم ضد الظلم وتحول ذلك إلى ثورة شاملة ضد النظام كثيرة ويصعب حصرها، كما يصعب حصر دور العام والخاص فيها. ولا شك في أن في الإمكان تحليل بنية أي ثورة واستخلاص استنتاجات نظرية.
ونحن وإن كنا لا نرجح أن هذا الجهد يؤدي الى صنع نظرية شاملة تتنبأ بشكل علمي بوقوع ثورة في النهاية، فإننا لا نستبعد على الإطلاق أن يساهم هذا الجهد في مراكمة تجربة نظرية تمكن من ترجيح احتمال وقوع ثورة في بلد من البلدان، ولكن كاحتمال فحسب. وهذا لا يستثني حالات كثيرة تقع فيها ثورات حيث لم يتوقع أحد.
تبحث الورقة في العناصر والخصائص التي تميز الثورات العربية والأخرى التي تشترك فيها مع سابقاتها من الثورات في العالم، للوصول إلى الصياغة الفكرية لمفهوم الثورة وتفكيك بنيتها وما ينتج عنها.
إن الكتابات النظرية عن الموضوع مشتقة غالباً من ثورةٍ تاريخيةٍ أو ثوراتٍ بعينها. وهي تعمّم استخلاصاتها من ثوراتٍ معيّنةٍ، فهي نوع من الاستقراء القابل للدحض دائماً، أو القابل للتطوير بشكل مستمر. ويصعب من دون تعسفٍ إطلاق تسميةٍ نظريةٍ على مجمل التنظير الذي تراكم جراء دراسة الثورات المختلفة في التاريخ.
لقد شملت مفهوم الثورة محاولات يصعب أن ترقى إلى مستوى التعريف العلمي. فالكلمة دارجةٌ في الاستخدام اليومي للغة، وحتى في الكتابة التاريخية أطلقت كتسميةٍ على عددٍ كبيرٍ من الظواهر المختلفة في شدّتها والتي تمتد من أيّ تحركٍ مسلّحٍ، أو حتى غير مسلّحٍ، ضد نظامٍ ما، إلى التحركات التي تطرح إسقاط النظام واستبداله، الأمر الذي يصعّب عملية تدقيق المصطلح. وفي الإنتاج التراثي نفسه استخدم التعبير لوصف تحركاتٍ شعبيةٍ من أنواعٍ عدة مثل "ثورة الزنج" و"ثورة القرامطة"، مثلما استخدمها عرب القرن العشرين المتأثرون بثورات عصرهم لفهم الماضي بمفاهيم الحاضر، وأما المؤرّخون العرب القدماء فلم يستخدموا كلمة "ثورة" بل كلمات مثل "خروج" و"فتنة".
غير أن أقرب كلمة إلى مفهوم الثورة المعاصرة هي "الخروج"، بمعنى الخروج لطلب الحق. فالخروج هنا بدايةً ليس خروجا على الجماعة، ولا حتى على السلطان بل هو "خروج إلى"، خروج إلى الناس طلبا للحق. إنه خروج إلى المجال العام، وفي هذه الحالة طلبا لإحقاق حق أو دفع ظلم.
إن مفهوم المؤرّخين العرب لما يصفه المؤرخون المعاصرون بـ "الثورة" خاضع للسياق الذي حكم إنتاجه، وهو اعتبار الخروج على الجماعة تقويضاً للعمران. والخروج على الجماعة أو الأمة هو الأصل في ذم الخوارج، أما الخروج على السلطان الغاشم فقد اختلف في شأنه، فالبعض اعتبره خروجا على الجماعة، والبعض الآخر اعتبره أمرا مشروعا، بل واجبا في بعض الحالات.
يطرح عبد الله العروي في "مجمل تاريخ المغرب" تساؤلات عن حركة عبد الكريم الخطابي كونها ثورة ريفية في إطار تقليدي على الرغم مما فيها من سمات عصرية. وهي تساؤلات في محلها وما يقوله ينطبق على كثير مما يسمى ثورات في القرن العشرين بإلصاق المعنى الحديث المفهومي للثورة، في حين أنها كانت أقرب إلى معناها الحرفي اللغوي (الهوجة) في ذلك الحين.
لكن ما يصعب فهمه هو تساؤل تشكيكي منتشر في وسائل الإعلام عن الثورات العربية الراهنة، ويثيره بشكل خاص مثقفون عرب كانوا يساريين ذات مرة ويحتفظون ببعض عدة اليسار المصطلحية. فهم لسبب ما لا يعتبرون الثورات العربية تستحق مفردة ثورة، لأنهم لا يعرفون، أو يتجاهلون معنى هذه المفردة العربية البسيط نسبيا، والذي تتجاوزه الثورات العربية سياسياً وحضارياً. كما أنهم لا يعرفون إلا ثورات مثل ثورة أكتوبر والثورة الفرنسية. ومنهم بالطبع من يعتقد أن برامج عملية ومخططات يجب أن تسبق الفعل الثوري، أو أحزاب ذات طابع أيديولوجي تقود الحراك الشعبي.
وما لا يعرفه هؤلاء، أنه حتى في الثورات الفرنسية والأميركية لم يخطط الثوريون لما فعلوه أثناء الثورة. بل إن الجدّة أمر اكتشفه الثوريون فيما يفعلون وينتجون، ولا شكّ في أن قسماً منهم قد طمح في تطلعاته الثورية إلى عودةٍ ما إلى ماضٍ روماني أو يوناني متخيل يجذّر فيه هويته أو أصله الأول.
وفي حالاتٍ أخرى عودة إلى مساواةٍ مسيحيةٍ قديمةٍ مفترضةٍ فطرها الله في طبيعة البشر الذين انحرفوا عنها. ولكن اكتساح الحكم وتطور حركة الاحتجاج إلى ثورة أدت إلى تغيير الملك، في حالة فرنسا مثلاً، من دون أن يكون ذلك مقصوداً في البداية، وإلى تأسيس دولةٍ في حالة الولايات المتحدة من دون أن يكون ذلك مقصوداً في البداية، ومن دون أن يضطر الناس إلى التفكير بالجديد.
وما لا يعرفه هؤلاء أيضاً، هو أن الثورات الشعبية بطبيعتها ليست ثورات أحزاب أيديولوجية تسعى إلى الحكم. بل إن هذا النوع الأخير من الثورات غالباً ما يفشل في توحيد الشعب من حوله، ويتحول إلى حروب عصابات، أو يتخذ شكل انقلاب عسكري أو غيره. الثورات الشعبية شعبية لا حزبية، لكن الأحزاب التي تسيطر على الثورة بعد تحولها إلى سلطة تنشئ تاريخاً للثورة يتسم بالتفخيم الذاتي، ويُبنى على أسطورة أو متخيل يشير إلى أن هذه الأحزاب هي التي قادت الثورة، أو لم تقم هذه الثورة من دونها، في حين أن قوى وأحزاباً أخرى تتهمها بأنها لم تفعل إلا سرقة الثورة. فليست الثورات عملاً حزبياً منظماً بناءً على برنامج مسبق.
فالمقصود بالثورة إذاً، هو تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثّل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة. والثورة بهذا المعنى هي حركة تغييرٍ لشرعيةٍ سياسيةٍ قائمةٍ لا تعترف بها وتستبدلها بشرعيةٍ جديدةٍ. والضرورة هنا تقتضي التعميم لاستحالة الوصول إلى صيغة عملية تحدد مراحل الثورة، لأن الثورة هي صيرورة يصعب الإشارة إلى نقطة بداية ونهاية لها، وهي تنطلق من حاجات يمكن تحديدها، ولكنها أثناء اندلاعها قد تنتج حاجات وسلاسل مطلبية لا علاقة لها بالشرارة الأولى الذي أنتجها وضع يتسم بـ"القابلية الثورية".
و"القابلية للثورة" هي الوعي بأن وضع المعاناة هو حالة من الظلم، أي الوعي بأن المعاناة ليست مبررة ولا هي حالة طبيعية معطاة، ووعي إمكانية الفعل ضده في الوقت نفسه.
رابط التحميل
جزيتم كلّ خير
ردحذف