حول الكتاب
إن التصوف يوصف بأنه "أكبر تيار روحي يسري في الأديان جميعها، وبمعنى أشمل يمكن تعرف التصوف بأنه إدراك الحقيقة المطلقة، سواء سميت هذه الحقيقة "حكمة" أو "نور" أو "عشق" أو "عدم". إن هذه المسميات تظل في أحسن حالاتها مجرد معالم في الطريق، لأن "الغاية" عند المتصوفة حقيقة لا يمكن وصفها، ويمتنع إدراكها أو التعبير عنها بالمدارك والأساليب العادية؛ فلا الفلسفة قادرة على أن تحيط بمفاهيمها ولا العقل، بل بصيرة القلب "الغنوصية" هي التي تجليها، إن الأمر يتطلب تجربة روحانية، لا صلة لها بالمناهج الفكرية أو العقلية، وهي تجربة إن سلكها المريد في بحثه عن الحقيقة المذكورة يهتدي بنور داخلي، يزداد كلما تحرر من تعلقه بهذا العالم، وكلما صقل مرآة قلبه، كما يقول بذلك المتصوفون، ولا يمكن أن يصل المريد إلى درجة الكشف المطلق Via illuminativa التي يوهب فيها الحب والمعرفة الباطنية إلا بعد وقت طويل من التطهر، المعروف بـ Via purgative في التصوف المسيحي، وربما يصل بعد ذلك إلى أسمى المطالب الصوفية على الإطلاق، ألا وهو التوحد مع الذات الإلهية، ذلك التوحد يمكن اكتسابه، ويعرف باتحاد الحب أو بأنه مشاهدة الذات الإلهية عندما تبصر الروح كل ما في الوجود مدعومة بنور الله السرمدي، ويمكن وصفه أيضاً بأنه "شف حجاب الجهالة"، ذلك الحجاب الذي يعوق توحد الذات والمخلوق، فالتصوف يمكن أن يعرّف بأنه "حب المطلق"، فبذلك الحب يتميز التصوف الحقيقي عن طقوس الزهد الأخرى، وحب الإله يجعل المريد يتحمل كل الآلام والمصائب التي يبتليه الله بها ليختبر حبه ويطهره، بل ويجعله يتلذذ بها، وذلك الحب يمكّن قلب المحب من الاتصال بالحضرة الإلهية "كالصقر يحمل صيده بعيداً" ويجعله يغيب عن حاضره. ويستطيع المرء أن يدنو من ظاهرة التصوف بانتهاج عدة سبل، ويبدو من المستحيل تحليل الخبرة الصوفية بذاتها لأن الكلمات لا يمكن أن تسبر أغوار هذه الخبرة أبداً، حتى أدق التحليلات النفسية لها محدوديتها بشأنها، "فالألفاظ تظل على الشاطئ" كما يقول الصوفيون. ومن الأسهل فهم الصوفية من خلال تحليل بنيتها، وقد بين العلامة الفرنسي هنري كوربان في أعماله عن ابن عربي إلى أي مدى يمكن أن يؤدي البحث في بنية النظام الفلسفي الصوفي. ويمكن أن تساعد تحليلات لغة التصوف وتطور "المعجم الصوفي" (لويس ماسينون ومنذ عهد قريب بولس نويا) على رفع الستار عن مرحلة تكوين الفكر الصوفي، بما فيه الرموز والصور التي يستخدمها الصوفيون ويحللونها ويبحثون فيها، وكيف يتداخل بعض الأمور والصور في بعض، كما تمهد تلك الدراسات الطريق أمام أبحاث أخرى عن إسهام التصوف في تطور اللغات والآداب والفنون الإسلامية ولأن التصوف مبني على مبدأ الذوق فإن المناهج المختلفة للتربية الروحانية والرياضيات المتبعة في الطرق الصوفية والدرجات النفسية للترقي وتكوين الطرق ودورها الاجتماعي والحضاري تفتح مجالاً مهماً ومثمراً لأبحاث متواصلة، ومما هو جدير بالذكر هنا أبحاث عالم الدراسات الإسلامية السويسري فرتس ماير. وقد كان موقف العلماء والأوروبيين من ظاهرة "التصوف الإسلامي" متفاوتاً، وأول اتصال بالأفكار الصوفية الإسلامية كان في العصور الوسطى، وتم في القرن التاسع عشر طبع العديد من الأعمال والمصادر التاريخية عن تاريخ التصوف، مما مكن العلماء تدريجياً الحصول على تصور أفضل عن بدايات وتطور التصوف الإسلامي. وتاريخ التصوف الإسلامي أشبه بخارطة عليها بعض مقامات هذا الطريق التي كانت ترشد إلى تجديد تفسير الشهادة تفسيراً أعمق دقة، وهي بعض الأشكال التي كانت واسطة في التعبير عن تلك الحقبة الواحدة، وبعض السبل التي كان يبحث الصوفيون أفراداً كانوا أو جماعات من خلالها عن بغيتهم، سواء عن طريق المعرفة أو عن طريق الحب، سواء عن طريق اعتبار الزهد أو عن طريق طقوس الوجد المؤدي إلى الغياب عن الحضور. هذا ما تحاول الباحثة الكشف عنه من خلال هذه الدراسة التي تهدف إلى الوصول إلى الأبعاد الصوفية وتاريخ التصوف في الإسلام.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق