حول الكتاب
كتب صاحب فلسفة الوجود كارل ياسبرز مخطوطته الأخيرة حول تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، إن هذه المحاولة البسيطة من خلال سبر الغور في فكر ياسبرز تأتي من باب فهم المحاولات التي طرحت عالميا لمفهوم تاريخ الفلسفة وارتباط ذلك بفلسفة التاريخ، ما نحن هنا الا لنحاول فض الاشتباك الناجم بينهما ومحاولة فهم العلاقة العضوية بالضرورة بين الفلسفة والتاريخ بعيداً عن الفكر الكهنوتي المحصن بفكر معين كالوجودية او غيرها، ولهذا نستقي الحالة الترابطية بين الفلسفة والتاريخ بعيداً عن ما سبق مع علمنا سلفاً صعوبة حدوث ذلك بالكامل، فالبناء الفكري الفلسفي يدعم فكرة معينة لكن في الوقت نفسة هناك اساسيات عامة هي التي نسعى لاستقائها وقولبتها بصورة نسعى من خلالها للوصل الى رؤية نسبية واضحة حول رؤية تاريخ الفلسفة وتجنب عثراتها التناقضية.
هناك ضرورة عند كتابة تاريخ الفلسفة تكمن في ضرورة الانفتاح على هذا التاريخ في مجموعه وتصوره تصوراً كلياً حتى يمكن أن يصبح موضوعاً للتأمل . يأتي هذا كحالة مفتاحية للتفكير القادر على البدء لا باعتباره حكما نهائياً " فليس هناك عرض نهائي وموضوعي" أو أن هناك جوانب ثابتة قادرة على توضيح ماهية التفكير الفلسفي.
يرى كارل ياسبرز ضرورة تحديد موقف مؤرخ الفلسفة ووجهة نظره لكي نتمكن من تقدير تصوره وحدوده، والكشف عن العوامل الذاتية التي تدخلت فيه. والواقع أن المؤرخ الجدير بهذا الاسم يتعين عليه أن يعرف نفسه معرفة واضحة . فكل وجهة نظر يتبناها عن وعي لا تعدو أن تكون زاوية واحدة من زوايا الرؤية التي تكون في مجموعها صورة شاملة لتاريخ الفلسفة. وبما أنه لا يريد أن تكون له وجهة نظر لأنه يسعى إلى أن يفهم ابتداءً من الكل، وأن يرجع بتفلسفه إلى الأصل في هذا الكل، مدفوعا بتاريخ الفلسفة بأسرها. كل هذه المحاذير تأتي لتصب في بوتقة واحدة، السعي للوصول الى فكرة معرفية شاملة بحصيلة الموروث الفلسفي الذي لا نهاية له يأتي هذا في الوقت الذي يوجب فيه ضرورة براغماتية سمتها تجنب الجمود ضمن نظرة ثابته، وهذا عائد الى أنه ضمن سعيه الفكري الفلسفي يصب في نهر التفلسف العام، ويشارك في مجراه الواحد كحالة من التناغم الذاتي كما هي حالة الأسر النهري التلقائي. هنا تأتي كينونة المؤرخ للفلسفة عبر وسائلة وإمكاناته وادواته التي يعمل من خلالها بشكل حثيث للوصول بالنهاية الى صورة خاصة به وهذا يخلق تفاعلاً مشكلاً حالة مخيالية من الحركة المستمرة.
الأن كيف ننظر الى تاريخ الفلسفة كحالة علائقية لفلسفة التاريخ وجوبا ؟ إن التاريخ يمثل سلسلة من الأخطاء التي تم تجاوزها أو يكون هو التقدم الذي تحقق بتحصيل المعارف الدقيقة وتجميعها بحيث تمثل اللحظة الحاضرة في هذا التقدم أقصى ذروة بلغها. وهذا يرسم ملامح الصورة التالية لتاريخ الفلسفة وهو انجلاء الغمامة عن الحقيقة الثابتة ما يمكن القيام به هنا هو السعي تدريجيا بوضوح هذه الحقيقة بحيث يتم اكتشافها كحصيلة نهائية لا رجعة عنها نحن هنا نتعلم من الماضي ما وفره لنا من معارف مكتسبة ولكننا نفضل دائما ان يكون ذلك على هيئة عرض منهجي وموضوعي منظم لا على هيئة الدراسة التاريخية، ولهذا يلزم دراسة الفلسفة من حيث هي مجموع الانظار الفلسفية الراهنة، وهنا يقول ياسبرز أنه رغم ان تاريخ الفلسفة يبين التطور الذي أدى عليها، ولكن هذا التطور يقتصر في الواقع على تتبع ظهور هذه الانظار النهائية التي ثبتت صحتها والتي من الضروري استخلاصها من سحب الاخطاء التي كانت تغلفها. لقد تقدمنا وتخطينا افلاطون وكانط هو يرى في مبرره هذا انطلاقا من ان المفكرون السابقون كانوا عمالقة بحق، أما أنا، [والحديث لياسبرز] وإن كنت مجرد عصفور ، فإني أحط على رأس العملاق وأرى أبعد مما راه"
هنا، عند هذه الحالة المجردة سيقصر ذلك مهمة تاريخ الفلسفة على البحث عن شيء غريب عن موضوعه الحقيقي، وتفسير جوانبه العرضية تفسيرا نفسيا او اجتماعيا وتعرف الطبيعة الإنسانية التي أمكنها أن تقع في مثل هذه الأخطاء، أو تتوصل لمثل هذه الاراء في ظروف معينة، بحيث يسهل تجنب العثرات في ضوء معرفتها.
هل ما قدم هو الطرح المثالي القويم هل يمثل الحالة الشاملة الحميمة كما يريدها ياسبرز هو ذاته يناقض ذاته ينسف الحالة الكلاسيكية في البحث الفلسفي فرغم ما تقدم من رؤية لتاريخ الفلسفة _ على الرغم من صحة بعض تفصيلاتها _ هي في مجموعها صورة خاطئة خطأ جذرياً. لان تاريخ الفلسفة ليس كغيره من العلوم يمثل منذ عهد طويل المجال الحقيقي لدراسة الفلسفة، ولما كانت الفلسفة مختلفة عن العلم، فإن ما يصدق على تاريخ العلوم_ وإن لم يكن هذا بصفة مطلقة_ لا يتحتم بالضرورة ان يصدق على الفلسفة. حالة عدم التماهي تأتي من أن الشيء الدقيق الذي تبحث عنه العلوم ليس هو بالضرورة هو الذي يهم وجودنا الشخصي . " ان الحقيقة التي تشد أزر حياتنا وتوجهها لا يمكن ان تحتاج إلى اثبات أو برهان ملزم" . هناك طرق عدة لإيقاظ شعورنا بالكل ، وتنبيه وعينا بما لا يمكن إثباته بصورة ضرورية، وعلى امثال هذه الطرق تسير الفلسفة. وعليه، لا بد أن يكون لتاريخ هذه الفلسفة طابع مختلف عن تاريخ العلوم. الرؤية قد تتقاطع بين الجانبين بالجزئيات ولكن من الناحية الكلية هناك تنافر في الهدف وتشعب بالطرق فلا المنهج الفلسفي قادر على أن يكون جامداً ثابتاً لأن التغيرات الأنسانية تمنعه من حالة الثبات السلبي بالضرورة.
اذاً كيف يمكن ومن خلال الحالة السابقة اعتبار تاريخ الفلسفة امراً جوهرياً لا غنى عنه للفلسفة في ظل طروحات أن الفلسفة لا تمثل بالضرورة الحقيقة الفلسفية الملزمة بالمعرفة الدقيقه بل تمثل حالة من الاستيعاب الباطني للوجود بدون تغيير وجهها ويتحول شكلها من عمل فلسفي الى اخر، ولكن هل كل شيء حق على نحو معين بالنسبة الى إنسان هذا العصر، وهذا قد يؤدي الى الطرح التالي: أن لا شيء حق أو أن الحقيقة الفلسفية تتغير مع تطور الانسان وتبدل مواقفه وأحواله .نحن أمام الا متناهي والا مؤكد الثابت هذا غياب للحقيقة أو تغييب لها دفن الماضي غياب رؤية للمستقبل هذا الطرح الوجودي العبثي غالبا قد يؤدي الى انتحار الفلسفة في حين انها قد تكون هي اصدق معبر عن مهمة تاريخ الفلسفة بحيث انها هي التي تفهم كل شيء ولا تستبعد شيء وتقبل على ماهية الظواهر والتقلبات لتفسيرها بعمق با سطحية ساذجة، وتسليط الضوء عليه وسبر الغور في ثناياه بصورة جنيولوجية صارمة والا فاننا سنسخط على هذا التفسير للتاريخ ونرفضه لانه عندها سيكون تاريخ الفلسفة في مجموعه خليط مضطرب وصور من الصراع العقيم ومبارزة زائفة بغير فائدة بين الاراء الذاتية واشكال الحياة المختلفة ولن يكون تاريخ الفلسفة في هذه الحالة سوى تاريخ الاوهام والاخطاء البشرية ولن يحظى في النهاية إلا باهتمام نفسي او مرضي.
الحالة الاكثر ثباتا ووضوحا إن الفلسفة ليست كما طرح بل هي وعت طابعها للوصول إلى التصور عن تاريخها يجمع أطراف التصورات المضادة والسابقة يصهرها في بوتقته. هي لا تمثل معبدا رغم خلودها فهي ليست ملكا لاحد ومع ذلك فهي حاضرة على الدوام لا تتحدد بأي أسلوب فكري ولا تنغلق فيه فهي واحدة متغلغلة في اعماق كل شيء هنا يمركز ياسبرز نظرته العالمية لتاريخ الفلسفة انطلاقا من انها جزء من الحالة الاعم هي الفلسفة الخالدة تتطلع الى الشامل الذي يتطلع إليه الجميع وسماتها تقوم على عدة سمات من اهمها :
_ إن الفلسفة تتضمن عنصراً او مستوى يتم فيه التوصل إلى الدقة، وتحصيل المعارف، وتحقيق التقدم على غرار العلوم الجزئية . كما أن الفلسفة تعبر عن نفسها في صورة نظام خاص مكتمل يحمل الطابع الشخصي لصاحبه ويدل على الاسلوب الاصيل للتحقق الفلسفي.
لا يمثل تاريخ الفلسفة المعنى الحقيقي بمجرد التمعن بالمادة الموضوعة الا نهائية التي يقدمها لنا التراث أو مجرد اخضاعه لمعايير معرفية محددة وعلى اختياره وتنظيمه اذا تم ذلك فاننا لن نكون الا أمام حالة من التعامل الذهني مع موضوعات ميتة، وهذا لن ينفتح علينا تاريخ الفلسفة حتى نفتح في الوقت نفسه عليه. ولهذا، يتحتم علينا أن نغوص بكل كياننا في هذا العالم وأن نرى ونشعر ونجرب ما يتحرك بانفسنا حتى يتضح ويصبح شيئاً جوهرياً .
بعد ما تقدم من نظرة ياسبرز العالمية للفلسفة، نستطيع القول عربيا: إن حالة التسطيح بدراسة التاريخ وغياب الروح النقدية المغيبة للفلسفة هي التي تدفعنا الى الموت كل يوم، دراسة الماضي بدون فهم معمق وفكر فلسفي للتاريخ هي دراسة ميت والموت اشارة للفناء الذي لا يجدي ويترك في النفس اثراً سلبياً والبقاء عند النقطة ذاتها لا علو بالفكر بل تكلس بالافكار. نحن اليوم بحاجة الى فلسفة التاريخ عربيا متجاوزين تشريح الداء والأزمة التي طال الاستطراد بها فيما يتعلق بالفكر العربي بدون رؤية فلسفية للتاريخ العربي ستبقى الازمة متجذرة عمق كل الازمات الاخرى التي لا ترى بغير عين النقد الساذجة _ مع وجوب النقد المنهجي _ وعلية لا بد من استلهام بعض الافكار التي يطرحها ياسبرز واهمها تلقف التفكير الفلسفي بصورة اكثر تلاقحا ما بين التاريخ والفلسفة عربيا لأنه (التفكير الفلسفي) بكل ما يتسم به من تشتت واتساع الرقعة يتجه نحو تفهم الأصيل تفهما حقيقيا. ولا بد لهذا السبب أن يكون تاريخ الفلسفة جذرياً، فتتبع جذور الأفكار هو الذي يمكنه من فهم فروعها. هذا الترابط العضوي لا يجب ان يقوم بصورة نخبوية بالضرورة بل يجب ان يكون تاريخ الفلسفة بسيطا كما يطرح ياسبرز. تأتي أهمية ذلك انطلاقاً من كون تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي يجب عليه أن يحاول إدراك الأصول والخصائص الأساسية ، بجانب إدراك الوثبات الجديده والقمم الرفيعة بحيث يجعلنا نفهم علاقتها بالكل ، ونشعر بتعبيرها الأمين عن الواقع كذلك يتعين عليه أن يتخلى عن الاهتمام بالوفرة في المعلومات التي يسهل الحصول عليها لكي يتمكن من إظهار الثراء الكامن في الأفكار والحقائق التي تملك النفس وتستولي عليها. وينبغي عليه في النهاية ان يتوصل إلى الى عنصرها البسيط الذي يحسم الأمر ويفصل في اتخاذ القرار.
رابط التحميل
0 التعليقات:
إرسال تعليق