الثورة العراقية الكبرى - عبدالرزاق الحسني


حول الكتاب

يشمل نطاق الدراسة, مقدمات الوقائع التاريخية, لتشكيل العملية السياسية وبناء الدولة العراقية, إثر إنهاء الإحتلال البريطاني للعراق, مع عرض لتداعيات ونتائج هذا الإحتلال, والدور الشعبي الوطني, في مقاومته, والثورة الوطنية التحررية, لإنهائه, تمهيدا لإقامة الحكم الوطني, وتأسيس الدولة العراقية المعاصرة, في دراسة مقارنة لتبيان أسبابها ونتائجها, وأثرها في السياسية والفكر والمجتمع, وإرتداداتها في الواقع السياسي المعاصر.
وهذه الدراسة, هي حلقة من سلسلة دراسية, للوقائع التأريخية في مسار الدولة العراقية المعاصرة, لبيان السجال حول أهليتها كأيام وطنية للعراق, وحجية النخب السياسية والمجتمعية والفكرية, التي تدعمها, وبالتالي إرتداداتها في المشهد المعاصر, وإستقراء الدرس التأريخي, في إسقاطاته على التجربة المعاصرة, وإغنائها وتقويمها.
وتنشر هذه الحلقة, لإنسجامها مع ذكرى الحدث, في إستذكار الثورة العراقية الكبرى, "ثورة العشرين", في الثلاثين من حزيران, من العام 1920, وقراءة مقدماتها ونتائجها, فيما ستنشر الحلقات الدراسية تباعا.
لقد جرت الوقائع التأريخية السياسية, التي تزامنت ومرحلة الإحتلال, وما بعدها, في مناخ فكري قلق, وبحث سياسي غير محدد, ودور متنام للحركات الإصلاحية, الداعية إلى الاستقلال الداخلي, وطموح في الزعامة, عبّر عنها زعماء القبائل, في مناطق الفرات الأوسط والغربية وشمال العراق، ووجهاء المدن, سواء في الفعل السياسي والفكري, أو في أعمال المقاومة المسلحة, ومنها في منطقة الإنزال البريطاني في البصرة, وفي بغداد, المركز السياسي والإقتصادي والثقافي فيه[1].
مقدمات الإحتلال البريطاني للعراق
كانت القوات البريطانية, قد بدأت حملتها العسكرية لاحتلال العراق, بإنزال بحري في الفاو في 6 ت2 1914م، طورته بالتقدم نحو البصرة, فأتمت احتلالها يوم 23 ت2 1914، واستمرت في التقدم شمالاً في اتجاه الهدف الإستراتيجي بغداد، لكنها تأخرت في الوصول إليها, إذ أتمت احتلالها يوم 17 أذار1917، نتيجة الإعاقة الكبيرة, التي واجهتها حركة القطعات البريطانية, على محور التقدم نحو بغداد، حيث تعرضت لمقاومة شعبية عنيفة, وأعمال دفاعية فعالة, بدءاٌ من معارك الشعيبة وتل اللحم والقرنة, وإستمرارا على طول محور تقدمها, بالمشاركة مع القوات النظامية العثمانية, دامت لقرابة الثلاث سنوات.
ثم تقدمت القوات شمالاً لتنهي احتلال العراق, بدخول الموصل مع انتهاء الحرب العالمية في العام 1918, حيث انتهت العمليات القتالية عند خط حمام العليل[2]، ثم تقدمت القوات دون تماس قتالي إلى الموصل, نتيجة انسحاب القطعات العثمانية إلى الحدود الطبيعية لتركيا[3], وكان الجنرال "مود", قد أعلن عند دخوله على رأس القوات البريطانية بغداد, أن قواته "جاءت محررة لا فاتحة", لكن الأحداث لم تثبت ذلك, خاصة بعد إعلان صك الانتداب.
الأعمال الدفاعية وفعاليات المقاومة العراقية
كانت الإعاقة الكبيرة, التي واجهت تقدم القوات البريطانية باتجاه هدفها الاستراتيجي بغداد، قد سببتها عمليات المقاومة المدبّرة, التي شهدتها جميع العقد على محاور التقدم, فشهدت معارك كبيرة لصد الإنزال, بدءا في الفاو، ثم معارك الشعيبة والقرنة، التي تميزت بتدني أداء القوات التركية المدافعة, ما ألقى الثقل الأكبر في الدفاع على المتطوعين العراقيين, من العشائر العراقية العربية والكردية، التي سارت إلى مواقع القتال, من منطقتي إنطلاقها في النجف الأشرف, بزعامة المرجع السيد محمد سعيد الحبوبي, ومن الكاظمية بزعامة السيد مهدي الحيدري، منضماً إليهم المتطوعون الكرد, بقيادة الأمير محمود الحفيد, والمتطوعون من العشائر العربية أعالي الفرات, وسائر أرجاء العراق, في غرب ووسط وشمال البلاد.
إن استيلاء العلماء المراجع, على تدوير شؤون الحرب, وتوغلهم في التداخل لجميع مواضيعها وتطوراتها، تحقق بسبب الولاء الديني لأبناء القبائل, "وصلة القربى بين القبائل والعلماء المراجع العرب من جهة, وكثرة تماسهم بالقبائل, وتعرفهم على عاداتها وأخلاقها"[4], وقد استمر الحضور الميداني للعلماء, وتقديمهم الكثير من الشهداء, بينهم السيد الحبوبي نفسه، متأثرا بجراحه في الانسحاب للناصرية[5]، ونجل السيد الحيدري، حتى بعد تعزيز القوات العثمانية.
فكانت معارك الإعاقة بين العمارة والكوت, وسقوط الحامية الانكليزية، ومن ثم المعركة التي اندحرت فيها القوات البريطانية بقيادة الجنرال طاوزند في المدائن "سلمان باك", في منطقة عمليات الكوت، غير أن التطور اللاحق لسير العمليات, في تأثيرات المعطيات الداخلية, المجتمعية والإقتصادية, والعوامل السياسية الإقليمية والدولية, وتأثيرات النتائج في الجبهات الأخرى, لمسارح العمليات الحربية خارج العراق, غيّر مسرى الأحداث, حتى إنتهت الى احتلال بغداد, في 17 آذار 1917.
ونتيجة ليأس العراقيين, من الوعود التي قدّمتها بريطانيا, بالانصياع للمطالب التي قدمت، خاصة بعد انتهاء الأعمال الحربية مع تركيا، بدأت سلسلة من فعاليات المقاومة، ومنها عملية تلعفر التي نفذها الضباط العراقيون, العائدون من قيادة الثورة العربية في الحجاز, بقيادة الشريف حسين, والدولة العربية التي تأسست في سوريا, بقيادة نجله الأمير فيصل, في العام 1919, وكان قد إعتمد جهازها العسكري القيادي والإستشاري, على نخبة الضباط العراقيين, المنسحبين من خدمة الجيش العثماني, والذين تولوا لاحقا, المسؤوليات السياسية, في تأسيس الدولة العراقية.
وقد سبقت أحداث تلعفر, الأعمال القتالية في "ثورة النجف"[6] في العام 1918, التي عرفت تأريخيا بثورة النجف, والتي أسفرت عن مقتل الحاكم السياسي في النجف, الكابتن وليم مارشال, في 19 آذار 1918, وأعقب الحادث حصار للمدينة دام (49) تسعة وأربعين يوماً, وقيام الثوار بأسر الحامية البريطانية في النجف، ونتج عن الثورة إعدام وأسر ونفي قرابة (150) مائة وخمسين ثائر نجفي.
وكانت النجف قد سبقت الأحداث, منذ العام 1915، استجابة وتحدياً للأسلوب القمعي للقادة العسكريين الأتراك, أمثال أحمد بيك أورك, الذي صرح بإهانة المتطوعين في المقاومة انّه "على تركيا إعادة احتلال العراق وتأديب القبائل الفراتية ثم قبائل دجلة", بوصفهم الخونة، فكان من نتاجها, مجازر مدينة الحلة, وإعدام ثوارها وشبابها القومي, على يد واليها "عاكف بك", رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها العراقيون, ليس لأجل الدولة العثمانية التركية, ولكن لأجل وطنهم, وكانت هذه المواقف, للقادة الأتراك, إحدى أسباب إندحارهم, وقد سبق أن إنتحر القائد التركي السابق في عمليات البصرة, ندما على مواقفه وسوء ظنّه بالمقاومين العراقيين.
مداخلة نقدية في إنتفاضة الحلة وشهدائها
من المفارقات، المقصودة ربما، هو تنفيذ حكم الإعدام بأحرار الحلة, على يد الوالي "عاكف بيك"، بنفس اليوم الذي نفّذ به حكم الإعدام, بالوطنيين العرب, في كل من دمشق وبيروت, على يد "جمال باشا السفاح"، والتي تعرف بأسمائهم "الشهداء", إلى اليوم, ابرز ساحات العاصمتين العربيتين, والتي شكلت إحدى أهم أسباب الثورة العربية الكبرى, إذ إنتهت بتحرير دمشق, على يد قوات الأمير فيصل, التي كان الضباط العراقيون يشكلون حجمها الأكبر, ثم تأسيس أول دولة عربية في التاريخ المعاصر, حيث نودي بالأمير فيصل ملكا فيها.
وللأسف لم ينصف مؤرخوا العراق, نفس الحدث الذي وقع بنفس اليوم, ولنفس الأسباب, وبنفس الأهمية والنتائج, سوى تغيير المكان، كما أنصف وخلّد أهل الشام وبيروت, ذكرى شهداءهم, إذ فسّر بعضهم اشتباها أو بقصد, القمع الذي واجهته الحلة وأحرارها, "بأعمال تأديبية لقطاع الطرق"، ومنهم أستاذي الجليل, الدكتور المؤرخ عماد عبد السلام رؤوف، في تحقيقه لمذكرات السيد علي البازركان، في كتاب "الوقائع الحقيقية للثورة العراقية", في مداخلته على كتاب الشيخ فريق الفرعون, الموسوم "الحقائق الناصعة للثورة العراقية", إذ ساق مؤلفه السيد البزركان, مثل هذا الرأي، ولم يعلق الأستاذ عليه ولم يخالفه, كمحقق باحث مقتدر.
وذلك برغم إنتماء الشهداء المغدورين, لخيرة الأسر الحلّية، ومنها آل شهيب أسرة الأستاذ الدكتور عبد المهدي البصير، وآل علوش أسرة الدكتور ناجي علوش, معاون رئيس جامعة بغداد سابقا، والشاب صاحب عبد الرضا الميرة, "وهو خال والدة كاتب السطور", وغيرهم, ممن لا ينطبق عليهم ذلك الوصف مطلقا، الذي ورد في الكتاب المذكور, فضلا عن السياق الفلسفي التاريخي, والبحثي التحليلي للأحداث والوقائع, وليس المطلوب إقامة النصب التذكارية لهم, كما فعل الأشقاء، وهو أقل إستحقاقاتهم الوطنية التأريخية, ولكن بوصف واقعتهم بما تستحق على الأقل، وإنصاف الوطن وتراثه فيهم.
الجذور التأريخية للإنتفاضة النجفية عام 1918
لقد شكلت أحداث ومجازر "مدينة الحلة" في مايس 1915، والتي تمثلت بإعدام مجموعة من الوطنيين الأحرار, واستباحة المدينة على يد واليها عاكف بيك, وبعض أعمال القمع الأخرى, في الكثير من المناطق القبلية العربية, ومن بينها الأكرع وعنزة وغيرها, إحدى أسباب الإنتفاضة في النجف, فكان رد الفعل فيها, أن طردت حاميتها التركية، ورفع عليها العلم العربي، وحكمت البلدة نفسها مستقلة منذ ذلك الحين، بعد تمكن النخب المتنورة فيها, من عزل الأهداف السياسية عن الدينية[8]، وكان المراجع وقتئذ, لازالوا مستمرين بالجهاد "الشرعي", إلى جانب القوات التركية, حتى وصلوا معهم بغداد، أمثال أنجال السيد الحيدري, والناشط الوطني القومي السيد أبو القاسم, نجل السيد مصطفى الكاشاني, وزميله السيد جواد الزنجاني، الذين شاركا لاحقاً بتنظيم العمل الوطني والقومي في بغداد والكاظمية[9].
لقد جرت أحداث ثورة النجف في العام 1918, والتي أرخ لها المؤرخ الكبير الأستاذ الحسنيو في كتابه الموسوم "ثورة النجف", ومن أعقبتها عمليات الضباط العراقيين في تلعفر في العام 1919, وثورة المناطق الكردية بقيادة الرمز الكردي أمير البرزنجية, الذي أعلن استقلاله في السليمانية, الشيخ محمود الحفيد, في العام 1919، ومعه قبائل الكوريان والزيبار وبارزان والعمادية في الموصل, منذ حزيران 1919م، وهي استمرار للفعاليات التي قادها جده وأسلافه في المنطقة، والتي قدم فيها الكثير من التضحيات.
وقد تطور في هذه المرحلة, دور النخبة في المجتمع العراقي, بمتابعة آثار المتغيرات العلمية والإقتصادية, والوعي الفكري في جوانب الثقافة، والتحرر من القرارات الإستراتيجية السابقة, التي اتخذتها النخب السياسية والمجتمعية, ضد بقايا الدولة العثمانية التركية, القامعة لحرياتها, بمعزل عن المرجعية، التي كانت ترافق القوات المدافعة التركية, لأسباب دينية حتى شمال بغداد، في الوقت الذي بدا المزاج الشعبي العام, بفهم حقائق الأمور، ومنها دور طلائع الصحافة العراقية، مثل مجلة "العلم" النجفية, في توسيع الأفق العلمي وتعريف المثقف العراقي, بما يحصل في العالم.[10]
لقد تسارعت الأحداث, بفعل تصلّب البريطانيين في موقفهم المعلن، لجهة عدم تلبية المطالب الوطنية, بتأسيس دولة دستورية مستقلة, تحت قيادة أمير عربي, بصلاحيات دستورية، إثر المراسلات بين الزعيم الديني والوطني, الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي, والشريف الحسين بن علي, أمير مكة وملك الحجاز، من خلال نجل الزعيم الحائري، الناشط الوطني وزعيم الاتجاه المتحمس للدولة العربية، الشيخ محمد رضا الحائري، الذي قاد وأدار الارتباط بين القبائل العربية وقيادة المرجعية، وممثل القيادة إلى ديوان الشريف الهاشمي الحسين بن علي في الحجاز, الشيخ الشبيبي.
الرصاصة الأولى للثورة العراقية الكبرى، وتنظيماتها القيادية
ومن خلال التنسيق مع رؤساء العشائر ووجوهها، أطلقت الشرارة الأولى للثورة العراقية الكبرى, في الرميثة يوم 30 حزيران 1920, في التعرض الناجح, الذي قاده الشيخ الحرجان لإطلاق سراح ابن عمه الشيخ شعلان أبو الجون, الموقوف في الحامية البريطانية، ثم امتدت العمليات القتالية بنجاح, لتشمل الجبهة الفراتية الجنوبية والوسطى والعليا, ممتدة إلى مناطق الفلوجة وعشائر الزوبع في لواء الدليم, بقيادة الزعيم الشيخ ضاري المحمود[11] والشيخ الكعود, وجنوبا حتى تخوم الناصرية والبصرة, ولذا تصفها الأدبيات البريطانية في وثائقها, بالإنتفاضة الفراتية.
وكانت القيادة المركزية للثورة, ممثلة بمجلس علمي أعلى, يقود المجالس التنفيذية وإدارة العمليات في الجبهات، أعلن تشكيله في النجف من العلماء الأحرار, بزعامة المرجع الشيخ الحائري الشيرازي, الذي استشهد فجأة بالسم[12]، إنتقاما لمواقفه الجريئة, وتخلصا من دوره القيادي المؤثر, فانتقلت الزعامة إلى شيخ الشريعة, وميدانياً بمشاركة غالبية زعماء عشائر الفرات، والأسر والعوائل في المدن.
ومن ثم امتدت المعارك إلى دجلة وديالى, فضلا عن المناطق الشمالية والكردية, لتشمل لاحقا كافة أنحاء العراق، في حين شكّلت العاصمة بغداد, حراكاً سياسياً واسعاً للزعماء الوطنيين, ومنهم من تعرض للقمع, فالتحق إلى ميدان الثورة, في مناطقها الممتدة حتى "اليوسفية" جنوب بغداد، وديالى شرقها, ومنهم الزعيمان الوطنيان البازركان والسويدي[13]، إلى جانب الحاج جعفر أبو التمن, والسيد محمد الصدر, والشيخ محمد نجل المرجع الخالصي, والخطيب السيد صالح الحلي, وسواهم.
أخلاقيات الثورة وتوجهاتها السلوكية القيمية
لقد تميزت الثورة, بانضباط صارم للثوار, للتوجيهات الواضحة بحفظ الممتلكات العامة, وحقن الدماء البريئة, والتمسك بأخلاقيات العرف الاجتماعي والشرعي, حرصاً على الأهداف العليا, وقد أصدر الزعيم القائد الحائري, خطاباً مثّل التهيئة الإعلامية والثقافية, للسلوك المطلوب في حال ترجيح خيار القوة, لأجل الحصول على مطالب للشعب، فطالب العراقيين بالتركيز على القضايا العملية المهمة في الحياة، والالتفات إلى تربية وتعليم الجيل الناشئ, وتقبّل الآخر, وعدم إشاعة سوء الظن, والعمل على التخلص من الأنانيات والفرديات في الحكم، وصولاً إلى الهدف الأسمى وهو الاستقلال, وقد مثل ذلك الخطاب المادة الإعلامية الرئيسة لصحافة الثورة، وهي التي شكلت لاحقاً النواة لصحافة العراق[14]، من أمثال الخطاب الصادر عن جريدة العراق, في العدد الصادر في آذار 1920.
ومما يؤكد الخطاب السياسي والاجتماعي والأمني المتوازن لقيادة الثورة، الذي يمثل القيم الأخلاقية الإنسانية, المعبرة عن الروح الحقيقية للإسلام، الرسالة التي بعثها في آب 1920, المرجع الديني شيخ الشريعة[15], إلى السير أرنولد ولسون, ويين فيها المطالب العراقية المشروعة لنيل الاستقلال, وتأسيس حكومة عراقية عربية, وإنهاء أعمال القمع والقتل, التي تقوم بها قوات الاحتلال, وإشاعة التسامح الديني.
وبرغم أن عددا من السياسيين في بغداد وغيرها, لم يؤيدوا الثورة، وعدّوها أعمال شغب وتخريب، وبدعم الكثير من رؤساء العشائر المناهضين للثورة، تحتفظ بهم وثائق التاريخ، غير أن رجالات الثورة ومقاتليها، لم يمارسوا أي أعمال عنف واعتداء على أي منهم، وكذلك صينت ممتلكاتهم وعوائلهم، واعتبرت الثورة مواقفهم خيارات محترمة، ضمن ثقافة الثورة, بحرمة دم الآخر وماله, شرعاً وقيماً وعرفاً، وهو خلق وسلوك متقدم رفيع وحضاري، لم يحظ المجتمع به اليوم في العراق.
الثورة في الأدبيات التحليلية البحثية
إن المؤلفات الأجنبية التي تطرقت إلى أحداث الثورة، هي مؤلفات تأثّرت كثيراً, بالأسس التي سيطرت عليها مفاهيم وثائق ومذكرات مدرسة الهند البريطانية, من مؤرخين أو سياسيين أو حكام وضباط سياسيين، مثل السير أرنولد ولسون المفوض الأعلى، ان منهج المدرسة المذكورة علمي دون شك, لكنه متميز في الموقف عن مدرسة لندن البريطانية، بكونه قد ثابر على اجتراء المعلومات بشأن الثورة, وتقليل آثارها على البريطانيين.
وكان الدكتور زكي صالح, قد أخرج من الوثائق البريطانية, حجم الإصابات داخل صفوف البريطانيين بمقدار(2269) إصابة بين قتيل ومفقود وجريح, فضلاً عن الأسرى الذين تحرروا لاحقاً، وبلغت الخسائر المادية (40) مليون باوند، وهو ضعف ميزانية العراق، وقد كان استخدام القوة الجوية وقصف المواقع المدنية للثوار, بالطائرات والمدفعية, الأثر لتحويل ميزان القوة لصالح بريطانيا.
تعتبر مؤلفات الشيخ فريق المزهر الفرعون[16]، "الحقائق الناصعة في الثورة العراقية الكبرى", والأستاذ عبد الله الفياض, والسيد عبد الرزاق الحسني "تاريخ الثورة العراقية الكبرى"، وفق تسلسلها الزمني, بواكير المصادر المؤلفة, المؤرخة للثورة ووقائعها.
ومن ثم تأتي كتابات الأستاذ الدكتور علي الوردي, في أجزاء موسوعته "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق"، إذ تناول الجانب التأريخي الإجتماعي والسلوكي فيها, ثم كتب وأبحاث الدكتور فاضل حسين, والدكتور زكي صالح, فتعد خيرة ما كتب عن وقائع الثورة، وقد صدرت الكثير من الكتب, عن رسائل وأطروحات جامعية, أهمّها للدكتور وميض عمر نظمي.
فضلا عن خروج مؤلفات وبحوث, تناول الجوانب الأيديولوجية للثورة, ومنها ما استخدم الأدوات التحليلية الماركسية اللينينية, في تفسير الثورة ومقدماتها، واعتبارها استمرار للحركة العالمية المكافحة, للشغيلة البروليتارية, لأسباب طبقية، ومنها المؤرخ الروسي الأستاذ "كوتولوف", في كتابه "ثورة العراق"[17].
الآثار والنتائج للثورة في السياسة والمجتمع
من الواضح أن ليوم 30 حزيران 1920, موقعاً متميزاً وفاصلاً, لتاريخ ست سنوات مضت, على بدء الاحتلال البريطاني, والسياسة البريطانية التي لم تفي بعهودها للعراقيين والعرب، وبعد حقبة طويلة من الإدارات العثمانية التركية وثم البريطانية, أفضت ثورة الثلاثين من حزيران عام 1920, إلى قيام أول حكومة بتاريخ 25 ت1 1920، برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب, شكّلها السير بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني.
وأفضت الثورة أيضاً, إلى تأسيس الأحزاب السياسية, نظير حزب النهضة والحزب الوطني العراقي, وسن قانون الحزب الحر العراقي, وحزب الأمة العراقي, وأثبتت الثورة إنها حملت أهدافاً سياسية اجتماعية, وليست أعمال عنف مجردة، فأفضت الى المباشرة بتأسيس وإجراء أول عملية سياسية, شملت انتخابات المجلس التأسيسي, وإصدار الدستور, وقانون الانتخاب, وبدء النشاط الوطني, إثر عودة المنفيين الوطنيين.
وانسجم ذلك مع الأهداف الوطنية الأولى, التي صدرت عن المرجعية الدينية, في المطالبة الملحة بالاستقلال, والتأكيد على الوحدة الوطنية, واختيار حكومة عربية, يقودها أحد أنجال الشريف الهاشمي، والتأكيد أيضاً على حث الناس على ضبط الأمن وإشاعة النظام والاستقرار, ومواجهة قوات الاحتلال بالحجج الدامغة قبل القوة, والرجوع إلى العقل, في التعامل مع المحتل, والسهر على ضبط أمن البلاد, فكان من النتائج المباشرة للثورة التي استمرت قرابة الستة أشهر، حتى قمعها في ت2 1920[18].
فكانت الثورة كما يصفها المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني، حيّة في معناها الفلسفي والاجتماعي, بما يؤكده إنصهار التنوع المذهبي والإثني, في بودقة الوحدة الوطنية[19]، وتذكر الوثائق البريطانية في تقييمها لوقائع الثورة وغاياتها وأهدافها, أنه "من الصعب التصديق أن "الشيعة" قد ساندوا حركة الاستقلال الوطني, لكي يتمكنوا بالتالي من إقامة وطن شيعي ثيوقراطي, ومن الصعب تقييم مثل هذه الحوادث, بشكل طائفي, لكن المؤكد أن المبدأ الإسلامي ديني عام, ولم يكن مبدءاً مختصاً بطائفة أو مبدءاً طائفيا[20].
رمزية حدث الثورة في الأيام الوطنية
وعليه فإن هذه المعطيات, في رمزية الحدث, الذي شكلته الثورة العراقية الكبرى, التحررية الوطنية, في مسار التأريخ العراقي المعاصر, وشروع العملية السياسية, في تشكيل الدولة العراقية, مثلت أسبابا معقولة, لمناصري الرأي الداعم, لإعتبار يوم الثلاثين من حزيران, العيد الوطني للدولة العراقية, في حين عارض ذلك آخرون, بحجية الوقائع الأخرى, التي يعدّوها أكثر رمزية وتأثيرا, لهذا العنوان, وفي مقدمتها يوم إنهاء الإنتداب البريطاني للعراق, ودخول العراق عضوا في عصبة الأمم, في يوم 3 ت1 1932, في دلالة لإعلان إستقلاله, غير أن ذلك لا ينسحب على إعتبار حدث الثورة العراقية الكبرى, في إدراك الجميع, من الأعياد الوطنية, التي دأبت الدولة والشعب, في الإحتفاء بها, وإعتبارها عطلة رسمية.

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق