لم يسمع الكثيرون عن الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل، لكن الفرنسيين يعرفونها حق المعرفة، وقد صنفوها في استطلاعاتهم للرأي كأثر النساء إثارة للإعجاب، وأهم المناهضات لحقوق المرأة؛ فمنذ قيادتها لحملة ناجحة لإضفاء الشرعية على عمليات الإجهاض في فرنسا عام 1975، عندما كانت وزيرة للصحة آنذاك، إلى نشرها لكتابات اشتهرت بالنبش في قضايا معقدة كالشقاء والألم.
وسيمون فايل فيلسوفة ومناضلة تميزت بالوعي والضمير، وبحياة بعد موت محقق، لتكون بذلك من أشهر الناجيات من محرقة الهولوكوست.
ولدت سيمون فايل، الفيلسوفة والروحانية الكبيرة كما يصفها الأستاذ أكرم أنطاكي في مقدمة الكتاب «مختارات» من كتابات سيمون فايل المتنوعة، بالعربية، في باريس 3 شباط 1909 من أسرة يهودية مثقفة غير متديِّنة.
سيمون فايل: إن عدونا الرئيس هو الجهاز الإداري، البوليسي أو العسكري
منْ يتفحص كتابات سيمون فايل تتوارى له الحياة كمسيرة طويلة وشاقة نحو الكمال الإنساني، يحس في ما تقوله وتكتبه جرأة نادرة وصدقا وصراحة ونقدا لاذعا ينبعث من إنسانة عايشت الألم وتشعبت في فلسفته، وقاومته بعدم الاستسلام التام لأي خيار من الخيارات التي تضعها أمامنا الأقدار، وبخلقها لفلسفة جديدة تحارب الدوغمائية والاستسلام وتحدد العدو الحقيقي للإنسان، والذي تراه سيمون "هو الجهاز الإداري، البوليسي أو العسكري؛ ما يعني أنه ليس ذاك الذي يواجهنا، والذي هو عدونا بمقدار ما هو عدو إخوتنا. إنما عدونا هو مَن يدَّعي أنه يدافع عنَّا ويحوِّلنا إلى عبيد. وفي كلِّ الأحوال، تبقى أحقر الخيانات أن نقبل الخضوع لهذا الجهاز وأن ندوس بأقدامنا، في سبيل خدمته، في أنفسنا وعند الآخرين، على القيم الإنسانية كلِّها".
كما تحارب سيمون الإيمان الدوغمائي انطلاقا من فلسفتها، وذلك بمحاربتها للعجز "العجز الذي نجد أنفسنا أسرى له في لحظة معينة، والذي يجب عدم التعامل معه إطلاقاً كشيء نهائي، لا يعفينا من أن نبقى مخلصين لأنفسنا، ولا يبرِّر بأيِّ شكل كان التخاذل أمام العدو، أيّاً كانت المسمَّيات التي يتزين بها [هذا العدو]، فاشية كانت أم ديمقراطية أم ديكتاتورية أم بروليتارية".
عايشت سيمون الألم والشقاء البروليتاري، وكانت تجربتها واقعية بامتياز، لذلك عندما تتحدث عن الشقاء والألم الذي عاشه الملايين من العمال، فإنها تتحدث عن شيء عايشته، لذلك تميزت سيمون بنقدها اللاذع للمنظرين اللينينيين الذين لم يتذوقوا الشقاء الذي عانى منه العمال، وكانوا يكتفون فقط بالغوص في نظريات حوله. فمن السهل وصف حالات معينة، ولكن من المؤكد أن التماهي معها دون معايشتها أمر عسير، فسيمون تعرف معنى الألم المعتق الذي رغب الإنسان الخلاص منه ولو في خياله. وكما تقول: "لا يمكن الفصل بين الشقاء وبين الألم البدني، على الرغم من أنّ من الممكن جدّاً التمييز بينهما. فحين نتحدث عن الشقاء يبدو كل ما ليس له علاقة بالألم البدني، أو بما يشبهه، سطحيّاً وواهيّاً ومن الممكن إزالته عن طريق مراجعة فكرية مناسبة".
سيمون فايل: أكثر الوزيرات جدلا في تاريخ فرنسا
كانت سيمون من أكثر الوزيرات جدلاً في تاريخ فرنسا، وذلك لدعمها لعمليات الإجهاض في وقت مبكر في فرنسا، عندما شنت حملة ناجحة لإضفاء الشرعية على عمليات الإجهاض في فرنسا، وقد تعرضت سيمون لانتقادات بالغة خلال تلك الحملة، وصلت إلى تهديدات قاسية وصلت إلى حد التهديد بالموت، إذ رسم أعداؤها صلبانا معقوفة على سيارتها وعلى منزلها، وقارنوا بين عمليات الإجهاض وبين الإبادة الجماعية للمحرقة 1975، وقد تأثرت سيمون نفسيا خاصة وأن حدث الإبادة الجماعية له تأثير وتاريخ أسود في ذاكرة سيمون التي سبق أن تم ترحيلها من فرنسا، وهي في سن المراهقة إلى معسكر الاعتقال "أوشفيتز- بيركيناو" الذي كان يديره النازيون.
لم تستسلم سيمون لكل ما تعرضت إليه من إهانات، بل واصلت مسيرتها في المجال السياسي، بعد حصولها على شهادة القانون، وخاضت معارك الدفاع عن حقوق المرأة الفرنسية، وقد تمكنت من الانتصار مع القانون الخاص بعمليات الإجهاض، وخاضت معارك طويلة للدفاع عن المرأة، أهمها المعركة التي خاضتها لتسهيل حصول الفتيات في فرنسا على موانع الحمل.
كانت سيمون أول سيدة تشغل منصب رئيس البرلمان الأوروبي، وهو المنصب الذي ظلت فيه لمدة 3 أعوام، قبل أن تعود لتعمل لصالح الحكومة الفرنسية. ولم يمنع سيمون عملها السياسي من عيش حياة عائلية جميلة مع زواج استمر 66 عاما وثمن بثلاثة أبناء.
لسيمون أعمال متميزة أهمها على سبيل الحصر لا التمييز، " دفاتر"، " تأملات حول قضايا الحرية والاضطهاد الاجتماعي"، "الظرف العمالي"، "رسالة إلى رجل دين"، "الإلياذة أو قصيدة القوة"، " انتظار الله"، " التجذر التجذُّر تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني".
ويعد كتاب "مختارات" الذي صدر عن دار معابر للنشر من ترجمة محمد علي عبد الجليل، من أهم الإنتاجات الفكرية التي تنتقل بنا فيها سيمون إلى عوالم متعددة، وخاصة عالم امرأة خبرت الحياة ولامس قلبها شغف الحب للإنسان بتموجاته الوجودية، بضعفه وقوته، على الرغم من انحيازها للقوة التي تعتبرها إلياذة قصيدة الحياة، وكما تقول:"إنَّ البطل الحقيقي، الموضوع الحقيقي، مركز الإلياذة هو القوة؛ القوة التي يستعملها الرجال، القوة التي تخضع الرجال، القوة التي تنقبض أمامها أجساد الرجال. فالنفس البشرية لا تفتأ تظهر لهم، وهي تغيِّرها علاقاتها مع القوة، تجرُّها وتعميها القوة التي تعتقد النفس امتلاكها، تنحني تحت وطأة القوة التي تخضع لها. فالذين كانوا يحلمون بأن القوة أصبحت، بفضل التطور، شأناً من شؤون الماضي، أصبح بإمكانهم أن يروا في هذه القصيدة وثيقةً؛ والذين يعرفون كيف يميزون القوة، اليوم كما في الماضي، في مركز التاريخ البشري بِرُمَّته يجدون فيها أجمل المرايا وأصفاها. القوة هي ما يحوِّل أيَّ شخص يخضع لها إلى شيء".
توفيت سيمون مبكراً في 24 (آب) 1943، بعد أن أمضت حياتها تحارب الإيمان الدوغمائي بمحاربتها للعجز، وبانتصارها لقوة الإرادة، وتدعو لحب مجاني وخال من الغائية وكما تقول: "من يعود إلى حالة الإنسانية ولو للحظات، بعد أن كانت الحياة قد عرته من كيانه هذا، وجعلته شيئًا بين الأشياء ورقمًا بين الأرقام، يستطيع في هذه اللحظة أن يحدس عطر هذا السخاء؛ في تلك اللحظة، يكتشف نفسه كنفسٍ باتت خاصة المحبة. يولد من العلاء، من الماء والروح... إن محبة الآخر لأجل ذاته هو إلى حد ما نوع من التعميد".
0 التعليقات:
إرسال تعليق