باروخ سبينوزا: الفيلسوف العقلاني


يعدُّ الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا من رواد التغييرفي تاريخ التفكير الغربي، استهوته الفلسفة الديكارتية وكان شغوفاً بالمعرفة، طُرد من اليهودية لدعوته إلى التحرر من الممارسات اليهودية، وتفحص الكتاب المقدس بأعين نقدية أو ما سمي بـ"منهج النقد التاريخي"، وكان أول من فسره تفسيراً عقلياً، ليفصل المعرفة عن الإيمان، ويصبح بالتالي الفيلسوف العقلاني.
تربى سبينوزا في صغره على التراث اليهودي والتقاليد اليهودية في أسرة يهودية، والتي هاجرت من شبه الجزيرة الإبيرية بسبب الاضطهاد الديني الذي عرفته أوربا آنذاك على إثر الصراع الدموي بين البروتستانت والكاثوليك.
عقدت أسرة سبينوزا آمالاً كبيرة عليه، وانتظرت منه أن يصبح حاخاماً يوماً ما، غير أنه خيب آمالها، حيث تعاطى دراسة الفلسفة وتأثر في البداية بالفيلسوف العربي اليهودي موسى بن ميمون الذي زرع فيه بذرة التمرد على التراث اليهودي الذي نشأ وتربى على أفكاره وتعاليمه، وساعده على تذوق الحرية، وإعمال العقل وترويده عبر طرح الأسئلة، كما أن النقاش الفلسفي الذي كان سائداً في هولندا في تلك الحقبة التي كانت قبلة لجميع المذاهب والتيارات، والحرية التي سادت السياق، ساعدت سبينوزاعلى المضي قدماً في اختياراته التي كانت صعبة قبل وبعد كل شيء.
تعلم سبينوزا اللاتينية واطلع على المؤلفات الفلسفية الكبرى التي انتشرت في عصره، مثل مؤلفات ديكارت وفرنسيس بيكون ودفيد هيوم وآخرين، غير أن انحيازه للفلسفة وابتعاده عن الطقوس الدينية، فتح عليه أبواب جهنم، وأثار حفيظة الكنيسة اليهودية فقام الحاخامات بإصدار فتوى ضده سنة 1656، كانت سبباً في حرمانه من الإرث العائلي، فعاش معزولاً بدون مورد معيشي مما اضطره إلى امتهان حرفة "نظاراتي".
على الرغم من أن الفكر الحر كان يشق طريقه في هولندا بخطى ثابتة، في مقابل المد الكاثوليكي الذي كان العمود الفقري للكنيسة في أوروبا، حتى أن الكثير من الأفراد تعرضوا للاضطهاد في بلدانهم نظراً لهيمنته، غير أن ذاك الحراك، والذي كان سبينوزا جزءا منه، لم يجلب لباروخ سوى التهميش، إذ اضطر في كثير من الأحيان إلى مغادرة أمستردام ليعيش بالضواحي خوفاً من تعصب الطائفة اليهودية ، وفعلاً فقد تعرض لمحاولة اغتيال من طرف أحدهم نجا منها بأعجوبة وبدون خسائر.
كان سبينوزا من أوائل الفلاسفة الذين واجهوا الأجوبة التاريخية الجاهزة ووضعوها تحت ماكينة النقد والقلقلة، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وذلك قبل مئة عام من ظهور فولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وسواهم، رواد فلسفة التنوير.
 انحيازه للفلسفة وابتعاده عن الطقوس الدينية، فتح عليه أبواب جهنم، وأثار حفيظة الكنيسة اليهودية فقام الحاخامات من حرمانه من الإرث.
واجه سبينوزا بمواقفه المثيرة رجال الدين في ظروف أشد صعوبة وخطورة، وقاد بفكره حركة تدعو إلى مراجعة الذات في علاقتها مع اللاهوت، ولم يخش أبداً البوح بأفكاره، حيث يصفه الكثير من الفلاسفة بـ"ديكارت الشجاع" الذي لم يخش على نفسه مقابل هذا البوح، فلقد طبق باروخ منهج ديكارت خصوصاً في المجال الديني والسياسي بكل جرأة، متجاوزراً كل الحدود، ولم يخشى من أي شيء، ولم يخف حتى على نفسه، لذلك قال في حقه هيجل، عميد الفلاسفة الاجتماعيين المحدثين: "إما أن تكون اسبينوزياً وإما ألّا تكون فيلسوفاً على الإطلاق".
دافع سبينوزا عن الحرية وخصوصاً الحرية الفكرية وحرية الشخص الإنسانية، ودعا إلى التعامل مع الأشخاص من منطلق إنساني، من دون النظر إلى أصولهم أو دينهم أو مذاهبهم، فالإنسان إنسان قبل كل شيء، ولا ينبغي معاداته لاعتناقه مذهباً أوعقيدة معينة، فهو لم يختر هذا المعتقد ولا ذاك عندما ولد، ولم يخيره أحد لكي يولد في مجتمع تسود فيه عقيدة معينة، وبالتالي لا يجب محاسبته على شيء فرض عليه، ولم يختره بنفسه بحرية، من هنا يمكن القول إن فكرة حرية المعتقد بدأت مع سبينوزا.
دعى إلى الأخذ بعين الاعتبار أن معرفة الله أو الطبيعة هي معرفة أنطولوجية ومنطقية تسبق معرفة الذات، بحكم الأسبقية الوجودية؛ فوجود الله أو الطبيعة أسبق على وجود الإنسان. 
وعلى الرغم من أن باروخ دافع عن الحرية، غير أنه يرى بأن الناس عموماً يتوهمون أنهم أحرار بسبب شعورهم بأفعالهم، ولعل قوله: "حين نرى الشمس نتخيل أنها قريبة منّا في حين أنها تبعد بكثير عن كوكب الأرض، والسبب في هذا التصور الخاطىء هو الجهل بالمسافة الحقيقية التي تفصلنا عنها"؛ فالتصور السبينوزي يدخل ضمن التصورالعقلاني الذي ينطلق من أن كل شيء في الوجود خاضع للضرورة بما في ذلك الإنسان.
تتأسس فلسفة اسبينوزا على مذهب وحدة الوجود أي فكرة الله التي تبدأ من كيانه ثم تنزل إلى سائر الموجودات، فلقد أعاد بناء النسق السقراطي الذي حوّل الفلسفة من الإنسان إلى الله، فقام بإعادتها لتتجه من جديد، من الله إلى الإنسان بتسلسل؛ آخذاً بعين الاعتبار أن معرفة الله أو الطبيعة هي معرفة أنطولوجية ومنطقية تسبق معرفة الذات، بحكم الأسبقية الوجودية؛ فوجود الله أو الطبيعة أسبق على وجود الإنسان؛ فالله عند اسبينوزا هو جوهر كُلّي مُطلق لا متناهي، كما أن الجوهر (الله) غير متناهٍ، وهو لا يقبل القسمة، وهو واحد أحد أزلي أبدي.
يُعد كتاب "الأخلاق" (1677) من أهم ما أنتج الفيلسوف الهولندي، فقد كتبه بتفانٍ ودقة، ويعد هذا الإنتاج الفكري من أهم المساعي التي توجه فيها سبينوزا للخلاص من قلق الأهواء بواسطة المعرفة، والخيرالأعظم، والغبطة، وبما أنه كان مطارداً ومحاصراً من قبل الحاخامات، فإنه تخلى عن نشر عمله، حفاظاً على حياته، حتى لا يعدم أو يتم حرقه.
دافع سبينوزا عن الحرية وخصوصاً الحرية الفكرية وحرية الشخص الإنسانية، ودعا إلى التعامل مع الأشخاص من منطلق إنساني، من دون النظر إلى أصولهم أو دينهم أو مذاهبهم.
وكتب باروخ سبينوزا، بالإضافة إلى كتاب "الأخلاق" مجموعة من المؤلفات، ورغم قلتها، إلا أنها أحدثت تأثيراً واسعاً في الفكر الفلسفي اللاحق. وكانت "مبادئ الفلسفة الديكارتية" أول مؤلفاته، وآخرها كتابه الشهير"الأخلاق"، الذي نشر بعد وفاته.
ويعد كتاب "الأخلاق" الحجر الأساس لفلسفة باروخ، أما كتابه الشهير الآخر"رسالة في اللاهوت والسياسة" فهو بحث نقدي في العلاقة بين الدين والسياسة، وقد نشره سبينوزا في عام 1670 دون وضع اسمه على الغلاف.
كما ألف سبينوزا "رسالة في السياسة" عام 1676 التي نشرت بعد وفاته، وفيها يضع نظريته في الحقوق الطبيعية والمدنية، ويوضح أفضلية النظام الديمقراطي والجمهوري، ويتناول أنواع الحكومات المختلفة من أرستقراطية وملكية وديمقراطية، موضحاً أفضلية النظام الديمقراطي على غيره.
لم يُكفر سبينوزا فقط بسبب عقائده وأفكاره، كما يرى بعض الباحثين، أو بما uرف عنه من استهزائه لفكرة الشعب المختار التي كان يروج لها رجال الدين اليهود، ويحاولون ترسيخها في عقائد الناس، بل أيضاً بسبب أفكاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت تتعارض مع المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام، فلقد هيمنت على الاقتصاد الأوروبي آنذاك شبكة من الشركات التجارية الكبرى.
كل الأشياء النبيلة صعبة بقدر ما هي نادرة.
جلبت لسبينوزا أفكاره التي تميزت بالجدية والاجتهاد والجرأة عدة متاعب شخصية حاصرته طيلة حياته، إلى أن مات بمرض السل وعمره لا يتجاوز الخامسة والأربعين (1677)، ولقد أسس خلال حياته فلسفة ونسقاً أنطولوجياً، اعتبرا المحاولة الأقوى في تاريخ الفكر لبناء نظرية خالصة عن الوجود، ولعلّ نصّه الأمّ: "الإتيقا" هو الآلية الأشدّ إحكاماً، حيث سعى إلى بناء مذهب مادّيّ صرف لا يسلّم بشيء للنزعات الروحية أو الدينية، ليصنف بذلك كفيلسوف ماديّ ينظر إلى الموجودات من جهة قوّتها وتركيبها المادّيّ، وليس من جهة ماهياتها الأخلاقية أو الدينية المجرّدة، على الرغم من تصنيفه بالفيلسوف المادي، إلا أنه كان للأخلاق التي تعترف بالإنسان مكانة كبيرة في فلسفته، ولعل الكلمة الأخيرة لسبينوزا في كتابه "الأخلاق": "كل الأشياء النبيلة صعبة بقدر ما هي نادرة"، لأبلغ دليل على ذلك.
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق