قبضة هيجل: حول جدوى نقد السلطة في العالم العربي




مصطفى عبد الظاهر*  

يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو[1] أن عصرنا يحاول جاهدًا، بالوسائل كلِّها، أن يتخلص من قبضة فلسفة هيغل، سواء عن طريق المنطق، أو عن طريق الإبستمولوجيا، أو عن طريق ماركس، أو عن طريق نيتشه. إن هيجل يعطي للدولة الحديثة صفات مفخمة من المعجم الديني: فهي على سبيل المثال "العنصر الإلهي الكائن في ذاته ولذاته"[2] ولعلنا لا نبالغ، إن قلنا إن الفلسفة السياسية المعاصرة، سواء في الغرب أو في العالم العربي أو العالم الثالث [3] تدور في فلك أفكار هيجل، سواء بالسلب أو بالإيجاب. أما بخصوص العالم العربي، فقد تنامى الاهتمام بالدولة ودورها في المجتمع والاقتصاد بالنمو في أوساط المفكرين العرب في ثمانينيات القرن العشرين[4]. وكانت الدولة قد ظهرت في العالم العربي، في وقت لم يكن المفكرون العرب يبدون فيه اهتمامًا حقيقيًا بتطورها ـ فقد كان أغلبهم مشغولا، إما بـ "الأمة الاسلامية" أو بـ"القومية العربية"، ولم تكن تشغلهم الدولة الإقليمية (القطرية) البيروقراطية بحد ذاتها.
أما على مستوى الفكر الإسلامي، فمع التراث العربي الإسلامي الضخم حول الفلسفة السياسية كانت المحاولات التنظيرية الإسلامية بعد التعاطي المباشر مع الدول الحديثة، وعلى خلاف أشكالها، لا تستطيع فكاكًا من التطبيق الهيجلي أو المقولة الهيجلية النظرية سابقة الذكر.

وعلى خلاف الأشكال النظرية الإسلامية المتاحة، مثل: "نموذج الرابطة الأممية لـ د. عبدالرزاق السنهوري،النموذج السلطوي التقليدي للحركة الوهابية، النموذج التحديثي الديمقراطي الذي تتبناه الأحزاب الإسلامية الديمقراطية، النموذج شبه الثيوقراطي في نظرية ولاية الفقيه الشيعية، ونظيره السني - حكم العلماء - مثل نظام طالبان بأفغانستان، والمحاكم الشرعية بالصومال والنموذج المثالي الراديكالي، والذي يتبدى في مفهوم الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب"[5] نجد أن التصورات المثالية للدولة وتجلياتها كمفهوم فلسفي،
لعلنا لا نبالغ، إن قلنا إن الفلسفة السياسية المعاصرة، سواء في الغرب أو في العالم العربي أو العالم الثالث تدور في فلك أفكار هيجل
شديدة الالتصاق بالمفهوم الهيجلي على مستوى التنظير، ونجد ذروة هذا التشابه – بل وعلاقة التأثر أيضًا – عند مفكر سياسي من أهم المفكرين العرب أصحاب التوجه الإسلامي، وهو الدكتور حامد ربيع، الذي تأثر بشكل مباشر بالمثالية الألمانية والإيطالية[6]، فنجد رؤاه حول الدور "الحضاري" والأخلاقي للدولة متمشٍ إلى حد كبير مع النزعة القومية الألمانية[7].
ومع تصاعد اهتمام العالم العربي بعدة موضوعات نظرية سياسية أساسية بعد ثورات الربيع العربي، اتجهت الأنظار إلى الاهتمام بموضوع "الدولة" كمفهوم كليّ من مفاهيم عالم السياسة والاجتماع، فكتبت الكثير من الأدبيات وغالبها في نقد الدور "المطمور" للحركات السياسية الإسلامية بإزاء الدول الحديثة، وكانت غالب هذه الكتابات تعتمد تعليقات وجهتها مدارس نقدية غربية للتحقق التاريخي لمفهوم الدولة في الغرب، وهي بالفعل صالحة لإعادة التشغيل الحيوي في عالمنا العربي في أجزاء منها، لكن غالبًا ما كانت هذه الكتابات تغفل شروطًا وخصائص أساسية تتعلق بالدول ما بعد المستعمرة، وربما أيضا وقعت في الفخ الذي وقع فيه الفلاسفة المسلمون قديمًا، عندما ترجموا ونقلوا الفلسفة اليونانية إلينا، وانكبوا على مناقشة مشكلاتها الأصلية التي أثيرت في البيئة الغربية دون أشكلة سياقاتهم الحياتية، السياسية منها والدينية.
فمع الذي تعلمناه من المدارس الغربية في نقد الدولة من المنظور البيروقراطي لدى فيبر، والمنظور القانوني الدستوري لدى كلسن والمنظور الاقتصادي لدى ماركس، والمفهوم البيو سياسي لدى فوكو، ومع الأهمية القصوى لنتاج هذه المدارس، والتي بلا شك يجب علينا كأناس معاصرين لدول ما بعد مستعمرة، الاستفادة منها، إلا أن هناك مشكلة تولدت عن سحب هذه الأفكار من سياقاتها التاريخية والمعرفية على واقعنا، وربما كانت أهم هذه المشكلات هو تحويل مفهوم الدولة لمفهوم ساكن غير تاريخي والتركيز الناتج عن التأويل المفرط على موضوعات، مثل أثر السلطة المستقى من فوكو[8] وما بعد البنيويين والهيمنة المستقى من غرامشي.
وعلى أن هناك أهمية كبرى لمناقشة تأثير السلطة على الأجساد الاجتماعية ومناقشة موضوعات إعادة الإنتاج الرمزي بتفريعاتها، إلا أن الإغراق في هذا النقد دون غيره من تأثيرات "الدولة" يضعنا أمام حالة نهائية، تقول: إن الدولة هي كل شيء ولا سبيل للفعل الاجتماعي دون التأثر بعمليات إعادة الإنتاج التي تمارسها الدولة علينا كذوات "مُدولنة"،
ما الفائدة من نقد الدولة إن كانت هي كل شيء؟ 
وهذا ليس إلا قَلب للأطروحة الهيجلية القائلة: "إن الدولة هي الفرد في حال الموضوعية، والفرد هو الدولة في حال الذاتية"، فما الفائدة إذن، من نقد الدولة إن كانت هي كل شيء؟ إن أقررنا باستحالة كل فاعلية اجتماعية خلاف فاعلية العمليات الدولتية على أننا لن ننفلت يومًا من أُطُرها القاهرة؟
يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في معرض حديثه عن نشأة الحقل البيروقراطي - معدلًا تعريف ماكس فيبر الشهير للدولة، إن الدولة جماعة إنسانية تطالب بنجاح باحتكار الاستخدام الشرعي العنف الطبيعي على أرض محددة -: (إن الدولة هي شيء "يُطالب" باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف الطبيعي والرمزي على أرض محدده وعلى مجمل سكانها)[9]. ومن هذا المنطلق، تستمد إعادة التشغيل الحيوي لسؤال "السلطة" أهميتها عبر دائرة أخرى، وهي دائرة إمكان الفعل الاجتماعي، فالعالم ممتلئ بالسلطات والسلطات المضادة، كالاقتصاد العابر للقوميات وقوة المجتمع المدني العابر للقوميات أيضًا، فبديلاً عن التفكير في الإنسان كـ "أحمق ثقافي" يدور، حيث دارت المعطيات الأنطولوجية لحياته، والذي يستتبع تعطيل إمكانات الفعل التاريخي، يجب أن نجترح دائرة اللامفكر فيه العربي المسمى "ما نريد" بعد تعلمنا ما لا نريد، وهناك في كل آنٍ إمكانية للفعل التاريخي في كل مجتمع حسب طاقته ومعطياته. فلم تصبح السلطة نطاقًا مركزيًا – بتعبير كارل شميت – لهوامش إلا بعد تعطيل كافة الإمكانات في نطاقات مركزية محتملة أخرى كالحركات الاجتماعية والمجال العام، وهي على اختلافها من ناحية المفهوم والتنظير والواقع بين المجتمعات تظل الضمانة الاجتماعية الأهم بإزاء دور السلطة.

[1]مونيس بو خضرة، عقم الفلسفة؟ هيغـل ونهـاية الفلسـفة، مجلة معابر، ويراجع أيضًا: هيجل والهيجلية، عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل، تعريب: أكرم أنطاكي، موقع معابر.
[2]من المفيد مراجعة مناقشة مهمة حول التجلي الموضوعي العقلاني للدولة عند هيجل في المثالية الألمانية، هنس زندكولر، ترجمة أبو يعرب المرزوقي وفتحي المسكيني وناجي العونلي، المجلد الثاني، ص 581
[3]لمزيد من التفصيل حول مساهمات مفكري العالم العربي والعالم الثالث في التفكير الجذري في مفهوم الدولة راجع: المجتمع والدولة في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 71 وما بعدها.
[4]راجع، تضخيم الدولة العربية، نزيه أيوبي، ترجمة أمجد حسين، ص 50 وما بعدها.
[5]راجع لمزيد من التفصيل حول هذه النماذج، إشكالية الحكم الإسلامي والدولة الحديثة، د. محمد عفان، منتدى العلاقات العربية والدولية.
[6]وقد نبّه نزيه أيوبي على هذه العلاقة في عمله سابق الذكر في تحليل دقيق للعلاقة بين أعمال د. حامد ربيع والفلسفة المثالية الألمانية " مرجع سابق، ص 64 وما بعدها.
[7]نفسه.
[8]ولعل كتاب وائل حلاق "الدولة المستحيلة" يعد أهم هذه الأمثلة، لكنه خطئًا ينسب إلى النقد الإسلامي للسلطة، فالحجاج الذي قدمه حلاق لا يمكن فصله عمّن تأثر بهم من الاجتماعيين أمثال أنتوني جيدنز وبيير بورديو، ويعتبر بشكل أكبر حجاج إسلامي "جماعتي" مستقى من أعمال تشارلز تايلور ومايكل ساندلز وويل كيملكا وألسدير ماكنتير، وهذه ما وضحه حلاق نفسه في مقدماته على الكتاب، راجع الكتاب، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص 57 وما بعدها.
[9] لأسباب عملية، بيير بورديو، ترجمة أنور مغيث، دار الأزمنة الحديثة، ص 124 
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق