على الرغم من بزوغ اسم الكثير من الكاتبات العربيات على مر السنين، إلا أنهن يبقين دوماً في مكان معزول، شبه جانبي، بعيداً عن مقاعد الأدباء الرجال التي تحتل الواجهة، إن سألت أي شخص عن كاتبه المفضل، ربما ذكر عشرة أسماء لأدباء رجال، مع اسم أو اسمين على الأكثر لكاتبات.
وبالرغم من قلة نسبتهن بالفعل إلى جانب نسبة الأدباء الرجال، إلا أن أدبهن دائماً ما يسبب الكثير من المشاكل، كيف لا، ونحن نعيش في مجتمع ينظر للمرأة نظرة ناقصة نوعاً، العديدون لا يؤمنون بتفوق المرأة إلى اليوم في بعض المجالات، أو حقها في التعبير عن نفسها بالطريقة التي تناسبها، المواقف النسوية والمسائل المتعلقة بالمرأة العربية دائماً ماتثير الجدل، فما بالك لو كانت قارئة، مثقفة، متحدثة، بل والأدهى كاتبة..
الكثيرون لا يحبون الإعتراف بوضع المرأة الشائك في المجتمعات الشرقية إلى اللحظة، لكن المثال هنا واضحاً وصريحاً، ربما يمكننا التذكير بإتهام الكثيرون للأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي، بسرقة روايتها الأولى ضمن الثلاثية الشهيرة (ذاكرة الجسد-فوضى الحواس-عابر سرير) من الشاعر الراحل سميح القاسم، الذي أفادوا بأنه هو كاتبها الحقيقي..بعدما لم يستطيعوا تصديق النجاح المبهر الذي حظيت به وقت نشرها. أو الجرأة الغريبة في السرد،والتي لم يعتادوا عليها من أديبة عربية.
مثال آخر قريب لرواية بنات الرياض، للكاتبة السعودية رجاء الصانع، والتي أحدثت ضجة هائلة محلياً وعالمياً بعد صدورها عام 2005، مع إتهام الكاتبة بخدش الحياء، وإساءة صورة المجتمع السعودي، حتى أنها مُنعت تماماً في المملكة، دون الاعتبار لخيال الكاتبة وقوة الأدب في التعبير عن المشاكل المجتمعية، التي قد لا تكون بالفعل نابعة من أحداث حقيقية، أو بالأحرى، دون أن تكون مستوحاة من قصة حقيقية عاشتها الكاتبة مثلاً أو أحد من معارفها.
أما الموقف الأخير، الذي ظهر فيه اسم الكاتبة البريطانية الشهيرة، ج.ك.رولينج، مؤلفة سلسلة هاري بوتر، بعدما ردت على تغريدة أرسلتها لها فتاة مصرية تدعى هاجر السيد، التي تملك شغفاً بالكتابة، لكنها وكما قالت لرولينج، تعاني من القيود المجتمعية حول الفتيات في مصر، حتى أن من حولها يسخرون منها عندما تخبرهم برغبتها في أن تصبح كاتبة.
كان رد رولينج حاسماً وقوياً، “إياك أن تتخلي عن حلمك” هكذا أخبرتها في تغريدة سريعة رداً عليها، “حولي هذه السخرية إلى وقود تحققين به رغباتك وأحلامك، أحضاني من كاتبة إلى أخرى”.
كان رد رولينج ملهماً ومشجعاً جداً، لكن تغريدة الفتاة هي التي دفعتنا للتساؤل، هل تعاني الكاتبات فعلاً من قيود في المجتمعات العربية؟ في ظل الإنفتاح الكبير وتوفر وسائل النشر على المواقع الإجتماعية والمدونات والمواقع الإليكترونية؟
أم أن هاجر تعاني من السخرية حول رغبتها في إمتهان الكتابة، هذه المهنة التي لا يُنظر لها بشكل جدي في المجتمع العربي..
طرحنا هذا السؤال على العديد من الكاتبات لمعرفة إن كن تعرضن بالفعل لمثل هذه المواقف أوالقيود، حول رغبتهن في امتهان الأدب، أو حول كتاباتهن نفسها، أو حتى في ردود الفعل بعد نشرها. وكانت ردودهن مختلفة ومتنوعة.
الكاتبة المصرية عزة سلطان، التي صدر لها عدة اعمال مثل “تدريبات على القسوة”، “جسد باتساع الوطن”، تماما كما يحدث في السينما”، اعترفت بأن الأمر مربكاً على مستويين، المستوي الأول أن الرقيب الذي أوجدته ثورة يوليو 1952 في مصر، تخلل إلي لاوعي الكاتب، فبات بعض من الكُتاب يراعي هذا الرقيب الداخلي وهو يُبدع، وتأتي مساحات البوح في إطار من التورية والخيال، واستعارة أزمنة أخري وأمكنة اخري، ومن يفلت من هذا الرقيب هم قِلة.
المستوي الثاني هو عن كتابة المرأة، فالكتابة في حد ذاتها فعل يستوجب لدي البعض تصنيفًا، فهذا أدب نسائي وما إلي ذلك من محاولات التمييز، عمقتها بعض الدعاوي النسوية، لكن التقييد يقع بشكل أساسي على كتابة الجسد، فإذا كتب الرجل عن الجسد كانت عليه مآخذ، ولكن يتم تمرير العمل..
وإذا كتبت المرأة عن الجسد واجهت الاتهامات حتي من النخبة، بعضهم يعتقد بأن الكتابات هي تجارب شخصية، بما لا يفصل بين ذات المبدع وبين بطل الرواية أو العمل الأدبي، وذلك هو التقييد الأكبر.
أضافت عزة بأنها تملك تصوراً بأنه في ظل تعدد فضاءات النشر (ورقي – إلكتروني- فضاءات افتراضية) لم يعد هناك تقييد بالمفهوم الشائع، فأي شخص يمكنه أن يكتب ما يريد، حتى الكتابة الإباحية تجد قرائها.
تحدثت عزة أيضاً عن مرحلة ما قبل الكتابة، وعدم وجود مشاريع محددة في عقل الأديب، فيكون التقييد هنا محض مشكلات قد يفتعلها البعض كدليل علي تعثرهم وعدم إنتاجهم
لكن بعد النشر، فإن أوجه التقييد التي يُمكن أن يواجهها عمل جيد هي تجاهله نقديًا أو إعلاميًا، وهذا ليس تقييداً بمعناه المعروف، وإنما هي حسابات بعضها اجتماعي وبعضها له علاقة بشبكة مصالح وعلاقات متداخلة جدًا، وشللية تعاني منها الأوساط الثقافية العربية. إجمالا لا تري أن هناك تقييد يُمارسه الآخرين من أجل منع الكتابة، وإنما التقييد يكون فى الانتشار نفسه، التقييد الأكبر يمارسه الرقيب الداخلي الذي تربي مع المبدع، ومن يفلت منه فقد أنجز. سواء كان رجلاً أو أنثى.
الكاتبة المصرية-اللبنانية سحر مندور، صاحبة روايات “حب بيروتي”، “سأرسم نجمة على جبين فيينا”، و”مينا” ، ترى بأن الكتابة النسوية تحتاج لعمق ومعرفة بالمجتمع وذكوريته وأبعادها، حتى تتمكن الكاتبة من تفكيك الجرائم الذكورية ومواجهتها. الأدب النسوي يتطلب من كاتبته وكاتبه أن يكونا على قدر من الحرفة ليتمكنا من مخاطبة شريحة واسعة ومتنوعة من الناس.
مثلاً على الكاتبة أن تتمتع بالتوازن اللازم لاستقطاب قرائها وعدم تنفيرهم، والاستقطاب في رأيها لا يتعارض مع الصدام أو التشاجر. فالقوى الذكورية في المجتمع دائماً ما تستشرس دفاعاً عن مكتسباتها، وتحاول إزالة الشرعية عن الكاتبات النسويات: مثل إتهامهن بالجنون أوالكفر، أو الدعوة للفساد الأخلاقي.
لكن العدالة معركة، في كل مجتمع من المجتمعات. وعلى الكاتبة أن تخوضها، من دون أن تنسى أهمية الإقناع. إقناع أكبر قدر من المجتمع ليأخذ صفها، دون أن تتخلى عن مبادئها، أو حقوقها في المساواة.
الكاتبة المصرية صفاء النجار، والتي صدر لها “إستقالة ملك الموت” و”حسن الختام” والمجموعة القصصية “البنت التي سرقت طول أخيها”، كان رأيها أن لا شيء يقف في وجه المبدع مهما كان جنسه، فالإبداع منحة من الله. ولا يوجد ما يستطيع أن يمنع أو يقف في وجه الابداع ، ربما يتأجل التعبير الابداعي برهة من االوقت في حياة المبدعة بسبب الأدوار االمتعددة التي تلعبها االمرأة في الحياة وهذا في حد ذاته إبداع. وخلال فترات الاستكانة تقوم المبدعة باختزان كل ماتعيشه لتشحذ بها طاقاتها الإبداعية لتتفجر في الوقت المناسب.
فيما يخص من تتحجج بقيود المجتمع ..أي قيود هذه ؟ في ظل توافر كل الوسائط الالكترونية والورقية التي تتيح للمبدعة التعبير عن ابداعها، لذا فصفاء تعتقد بأنها ادعاءات ناتجة عن قصور في التجربة وترديد للأكلشيهات المحفوظة بهدف كسب تعاطف غربي لديه صورة نمطية عن الإنسان العربي بشكل عام.
رغم كل الظروف والصعاب التي يمر بها المبدع هناك أوقات مستقطعة في الحياة يمكن توظيفها لصالح الإبداع إذا كان موجوداً بالفعل، وليست مجرد فقاعات هوائية تطفو على سطح البحر.
الكاتبة عزة رشاد، التي صدر لها العديد من الأعمال مثل “ذاكرة التيه”، و”شجرة اللبخ”، و”نصف ضوء”، عارضتها قليلاً، فهي تعتقد أن المجتمع يتربص بالطبع بالكتابة النسوية، ففي الوقت الذي ناضلتْ فيه المنظمات الحقوقية النسائية من أجل تحقيق المساواة القانونية بين المرأة والرجل، مازال المجتمع أكثر رجعية من المؤسسة القانونية، وخاصة في مجال حرية الإبداع..
فمازالت الشرائح المتأثرة بالخطاب الديني المتشدد تخلط بين الإبداع والبدع المذكورة في الحديث النبوي: كل بدعة ضلالة..إلخ. وحتى شرائح المجتمع التي تتظاهر بالتَحضُّر تعاني من إزدواجية بين الفكر والممارسة، ففيما تتباهى بإبداع المرأة، لا تكف عن فرض الوصاية مُغلفة بالمصطلحات المضللة: أدب هادف وأدب غير هادف، مشروعية تناول أي قضايا بما فيها التابوهات، وعدم مشروعية التناول الصريح “الخادش لحياء مجتمع ذي “خصوصية ثقافية معينة”….إلخ.
لكن صدقًا وهذا أهم ما في الموضوع: لم تعد المبدعة العربية تمتثل لهذه الإملاءات، فالقيد الوحيد بالنسبة لها مثلا كروائية: هو رؤيتها للكتابة الأدبية كفن بالأساس، ثم ضميرها ككاتبة وكإنسانة، الذي يعتبر كشف المساوئ والعيوب المسكوت عنها هو الطريق الأوحد لمواجهتها ومن ثم تصحيحها.
الكاتبة أميرة حسن الدسوقي، التي صدر لها المجموعتين القصصيتين “بس يا يوسف”، و”تانجو ميدان الجيزة”، ترى أن المشكلة في القاريء بشكل عام وليس الكاتب أو الكاتبة، فهو يقوم بإسقاط القصة أو الأحداث المذكورة في الرواية، على قصة حياة الكاتب الحقيقية، الأمرالذي يصيبهم بصدمة إن تحدثت كاتبة مثلاً عن تابوهات مثل الجنس والعلاقات غير الشرعية في روايتها، وقتها ستكون هي في نظرهم موضع الإتهام.
الكاتبة أماني خليل صاحبة رواية “الوهج” تتفق مع رأي أميرة حول إسقاط المجتمع للكتابة الأدبية علي الحياة الخاصة للكاتبة، غياب الحدود بين الإبداع والحياة الشخصية للمبدع حاصل أيضا في الفن، وكأن كل الكتابة هي بالضرورة سيرة ذاتية أو جزء من السيرة الذاتية للكاتب.
هذا الضغط يجعل الكاتبة في كثير من الأحيان تمارس نوعاً من الرقابة الذاتية علي إبداعها كي يظهر في صورة مقبولة بعيدا عن الوصم المجتمعي، وفور أن نمارس رقابة ذاتية علي إبداعنا فإن ذلك يجعل الإبداع منقوصا ومبتسرا وخاليا من الحياة.
الكاتبة تسنيم فهيد، صاحبة المجموعتين القصصتين “لوح رخام أبيض” و”أم الولي”، لا تعتقد أن المجتمع يُقيّد أي امرأة في الكتابة. ربما لا يمنحها التشجيع الكافي، لكنه لا يهزأ من محاولاتها أو يُكبّلها كما يدّعي البعض.
كل ما في الأمر أن صقل الموهبة يحتاج إلى بعض التفرغ من أجل القراءة والبحث وورشات الكتابة الذاتية والهدوء وقليل من العزلة.. وهذه الأشياء في الأغلب غير متاحة للمرأة في مجتمعنا العربي، في حين أنها تتاح للرجل بنسبة أكبر.
وكما قالت فيرجينيا وولف: يجب أن يكون للمرأة مالها الخاص وغرفة خاصة بها إذا أرادت أن تكتب الروايات. وهذا –في حقيقة الأمر-أمر يصعب تحقيقه في بلادنا العربية”.
الكاتبة شيرين هنائي، الشهيرة بروايات “صندوق الدمى”، “نيكروفيليا”، “طغراء”، و”ذئاب يلوستون”، لا تعتبر موقف هاجر له دلالة على القيود المجتمعية حول الكاتبات العربيات فقط، بل هو دليل على معاناة الشباب الراغب في إحتراف أحد أنواع الفن أو الأدب بشكل عام من نظرة المجتمع، وهو ناتج عن النظرة السطحية لهذه المجالات، وكأنها بلا قيمة، الأمر الذي يدفعهم للسخرية منها ومن الراغبين في امتهانها بالفعل، وليست قضية ذكر وأنثى.
أما الكاتبة أريج جمال، صاحبة رواية “مائدة واحدة للمحبة” فترى أن الأمر يتعلق بنوع التحديات التي يواجهها مَنْ يحب ممارسة الكتابة، الكتابة بمعنى أن يكون المرء قادرًا على مواجهة ذاته واكتشافها، هذا ليس سهلًا، لا بالنسبة للرجل أو المرأة، لكن حين تنشر المرأة كتاباً يحوي أفكارها، فالأمر يختلف بالطبع، تصبح هذه العين المراقبة أشد نبشًا في التفاصيل.
في هذا العالم الذي نعيش فيه، يبدو من المُستحيل منع الكتب من النشر، مهما كان مضمونها مُتمردًا أو صاخبًا، لكن التكلفة النفسية التي سوف يدفعها مَنْ يقترب من الحدود، باهظة بالطبع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق