اعترافات جان جاك روسو - جان جاك روسو


حول الكتاب

كانت الاعترافات لتبدو زائفة لو أنها جاءت على لسان كاتب مغمور ، فلربما عاد عليه ذلك بشيء من الصّيت ، أما أن يسرد فيلسوف بوزن ومكانة «جان جاك روسو» المرموقة ، كل دواخله الدفينة على رؤوس الأشهاد ، طيبها وخبيثها ، ويسْلم نفسه بهدوء للنقد اللاذع من خصومه ، وللإشفاق البغيض من أنصاره ، فهذا هو التجرد بعينه ، في أصدق صوره

لم يتخذ روسو في اعترافاته طابع المجاهر بمعصيته ، المعتز بآثامه ، بقدر ما سلك مسلك من يبوح بها ليتطهر من عبئها ، وهذا ما كان جليا حين قال

( إن الذنب لعظيم .. بيد أن الرغبة في الإيذاء لم تدخل فؤادي أبدا ، وإنني لم أستمرئ قط رذائل المركز الذي كنت فيه ، وإن مارستها )

ولتستشعروا مدى الألم الذي كان يتخلل هذا الفؤاد المرهف تأملوا الأوصاف التي وصف بها نفسه في تعقيبه على حادثة تلفيقه تهمة سرقة الوشاح للشابة «ماريون» ، والتي لم يكن في حينها قد تجاوز بعد السادسة عشرة من عمره

ـ( عُرض عليها الشريط ، واتهمتها في جرأة ، فاكتفت بأن رمقتني بنظرة كانت كفيلة بأن تجرد «إبليس» ذاته من أسلحته ، ولكن قلبي «البهيمي» كان منيعا دونها ، و أصررت على قصتي ، في «قحة شيطانية» )ـ

حتى الكتابة ، وهي الفضيلة التي يستطيع روسو التحديق في قرص الشمس و المباهاة فيها ! فإنه لم يترك مساحة للرياء بها

ـ( ومن هنا كانت الصعوبة البالغة التي أجدها في الكتابة ، وإن مخطوطاتي بما فيها من كشط ومحو وسطور متداخلة ، لتشهد بالعناء الذي تكبدنيه ، فليس بينها ما لم أضطر إلى نسخه أربع أو خمس مرات ، قبل أن أستطيع أن أدفع به إلى المطبعة. )ـ

وعن رهابه الإجتماعي فحدث ولا حرج

ـ( و على الرغم من أنني خجول بطبيعتي ، إلا أنني كنت جسورا في بعض الأحيان -في شبابي- ولكني لم أكن كذلك قط في كبري .. فكلما ازددت تعرفا على المجتمع ، قلت قدرتي على أن أكيف نفسي وفقا لأساليبه في الحديث! وإذا كان قدر لي ألا أحب العيش وسط الناس ، فقد كان هذا ذنبهم أكثر مما هو ذنبي. )ـ

أول خاطر لاح لي بعد ختم الكتاب كان أن أسرد بدوري اعترافات ذاتية لتكون مادة تدوينة جديدة ، ولكم هالتني النتيجة ! أبدا لم يجل بخاطري أن قلمي سيكون بهذا العجز ! دونت بعض الاعترافات ولكني لم أسجل الحقيقة كاملة ، ولا حتى اقتربت منها ! وهذا ما زاد صنيع روسو في نظري عظمة وجلالا. كما أن تسجيل اعترافاتي لربما يكون حيلة ماكرة مني لتجميل ذاتي ، والظهور بمظهر المعترف بأخطائه والمقر لعيوبه ،، اعترف بهذا ، وربما أنا الآن أمارس فعل الاعتراف التجميلي بهذا الاعتراف ، من يدري ؟!ـ

أكثر ما هالني .. تلك القشعريرة التي كانت تسري في جسدي حتى آخر شعرة فيه عقب كل اعتراف يسرده روسو ! ولو سُئلتُ عن سبب هذا التجاوب الجارف لخمنت أن مرده عائد إلى أني استشعرت أن الذي يخاطبني بشر يشبهني ، تعتريه نفس هواجسي وأهوائي.. على عكس بعض الكتب والتي – بمثاليتها المفرطة – تجعلك تشعر وكأنك في حضرة ملَك نزل لتوه من الفردوس الأعلى

لقد غدى روسو مني بمثابة المعلم ، لأنه كان بنزواته و ضعفه و حماقاته أكثر مثالية من أقرانه ، فلقد جسد الإنسان كما أراده خالقه، بشرا يعتريه النقص وتتجاذبه الأهواء ، لا كما شوهه حراس الفضيلة في تظاهرهم بالرغبة في تطهيره

كلنا ينشد – في سعيه للتصالح مع ذاته – إلى كمال لا متناهٍ من الفضائل الأخلاقية ، بيد أن ما يجعل الإنسان شريفا مستقيما ليس استئصاله للشر الكامن فيه من جذوره - فهو جزء من تركيبته و سيفنى وهو في شد وجذب معه – و إنما ترجيحه لكفة الخير وتغلبه على ما ينتابه من نزعات وأهواء

قصارى القول ، إن الظمأ إلى الهناء لا يمكن أن يرتوي في القلب إلا إذا تحرر الإنسان من ربقة المثالية في سعيه إلى الفضيلة

لا يجوز لي أن أترك «الاعترافات» دون كلمة عن العشق الأسطوري الذي جمع «روسو» بمدام «دي فاران» ، ولكم كانت عذبة حكاية حبهما ! ليس بوسعي أن أستذكر ما هو أكثر منها حلاوة و طراوة ! على أن النهاية المحزنة لقصة حبهما -والتي أحسبها عصية على التكرار- بعثت في خواطري بعد العذوبة عذاباً استلزم مني جهدا مضنيا لصرفه عن صدري ، وأني لمتيقن أن كل من سمع بها أصيب بهذه العدوى ، على أن ما فيها عذوبة ورهافة ورقة كان بالنسبة لي تعويضا كافيا لما تجمشته بعد ذلك من عناء

أختم حديثي بهذه الأبيات التي نُقشت على المنزل الذي أقام فيه «روسو» و مدام «دي فاران» ، و التي تقول في معناها

أيها المأوى الذي شغله جان جاك .. إنك لتذكرني بعبقريته، وبحبه للعزلة، وبتحمسه وحميته.. وبمصائبه وطيشه.. لقد جرؤ على أن يكرس حياته للمجد والحقيقة.. وكان دائما مضطهدا، إما بنفسه وإما بالحاسدين !

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق