موت بائع متجول - آرثر ميلر



 حول الكتاب

«... إن من يقرأ مسرحياتي بتأن أو يشاهدها بانتباه وهي تمثل على المسرح، لن يمكنه منع نفسه من التساؤل حول معنى كلمة واقعية. لقد وُصفت منذ بداياتي بأني كاتب مسرحي واقعي، وذلك لأسباب صحيحة ولكن أيضاً لأسباب غير واضحة في الوقت نفسه. والحقيقة أن أول مسرحية لي لفتت أنظار الناس كانت «كل أبنائي» التي كتبتها بالفعل ضمن اطار تقاليد مسرح هنريك ابسن الاجتماعي. وفي ذلك الحين، أي في العام 1947، كنت أنا نفسي بذلت شيئاً من الجهد كي أدفع الناس الى الاهتمام بذلك المعلم الذي كان مهملاً خلال المرحلة السابقة. وبما أن النقاد والمعلقين، مثلهم في هذا مثلنا جميعاً، أناس كسالى، لم يجدوا أن من الضروري لهم، طالما أنني وُصفت بالكاتب الواقعي، أن ينظروا بدقة الى أعمالي التالية. وهكذا، لم يدركوا - على سبيل المثال - أن مسرحيتي الثانية «موت بائع متجول» لا تنتمي أبداً الى تقاليد المسرح الواقعي، بل هي مسرحية أتت لتعبر عن توليفة جديدة قاطعة، بين البعدين السيكولوجي والاجتماعي...». كاتب هذا الكلام هو، بالطبع، آرثر ميلر، أحد أكبر كتاب المسرح في أميركا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والذي اشتهر لدى العامة - وهذا تفصيل جانبي طبعاً - بكونه آخر أزواج مارلين مونرو، أكثر مما اشتهر لديهم بكونه كاتباً مسرحياً كبيراً. وهو وضع عدداً من الأعمال التي أحيت المسرح الأميركي وفرضت حضوراً كبيراً في المسرح العالمي. والمهم هنا هو أن آرثر ميلر، تحدث في النص أعلاه، والذي كتبه بعد نصف قرن تقريباً من انجازه كتابة «موت بائع متجول» عن سوء التفاهم الأبدي الذي يطبع علاقة الكاتب بنقاده وبمتابعي عمله. والحقيقة ان ميلر يبدو هنا على حق تماماً، إذ نعرف أن أهل المسرح العربي وغيرهم من القراء الهواة لم يستقبلوا «موت بائع متجول» إلا بصفتها «عملاً واقعياً اجتماعياً» يفضح «الحلم الأميركي» على طريقة «شهد شاهد من أهله».

إن من يقرأ «موت بائع متجول» أو يشاهدها تمثل على المسرح، يمكنه أن يفهم بسرعة ما يقوله بعض النقاد من أن هذه المسرحية هي على الأرجح «التراجيديا الوحيدة المنتمية الى القرن العشرين التي حققت نجاحاً كبيراً على رغم ان بطلها بطل - مضاد». ولعل أبرز ما يمكن استخلاصه من هذه المسرحية، وهو العنصر الذي اضفى عليها سحرها وقوتها، هو ان «القيم التي يسير بطلها ويلي لومان على هديها، تشبه الى حد كبير قيم المجتمع الأميركي، وبالتالي فإن سقوط لومان يعود في الوقت نفسه الى سقوطه الفردي الشخصي، كما يعود الى ما له علاقة بسقوط تلك القيم نفسها». ومن هنا، فإن ويلي لومان، بالطريقة التي يعيشها وبالطريقة التي يموت بها، انما «يعبر عن فعل الدمار الذاتي البطيء الذي يعيشه مجتمع نجد فيه كيف ان الوعود الوهمية التي تعدنا بها الدعاية، لا تفسد فقط حياتنا المهنية، بل كذلك علاقاتنا الشخصية، وسط مجتمع بات مهووساً بفكرة النجاح. وهنا، بالتوازي مع تلك الوعود الاجتماعية، ستبدو «بلا جدوى أيضاً كل تلك الوعود التي يبذلها ويلي لزوجته ليندا ولولديه هابي وبيف». بالنسبة الى ميلر، وكما يقول الباحث رونالد هايمان «ليس ثمة ما يساوي قيمة العائلة في حياتنا، بيد أن الفكرة التي توجه ويلي ليمان في تربيته لولديه، تتمحور حول الاستفادة الى حد أقصى من السحر الشخصي ومن المظهر الحسن»، موفراً لهما كل ذلك الرصيد الذي سيمكنهما، في رأيه، من أن يحققا نجاحاً مهنياً من التجارة: لعبة البيع.

هنا للوهلة الأولى تبدو المسرحية واقعية تماماً. غير ان مظهرها هذا خداع لا أكثر... إذ ان أسلوب هذه المسرحية المبكرة لميلر، جاء تعبيرياً غارقاً في السيكولوجيا، طالما أن ميلر، حين كتب المسرحية، كان في ذهنه أن يعطى الدور المحوري فيها لـ «فرد عادي» ثانوي الأهمية (ومن هنا اسمه لومان Loman التي يمكن أن تقرأ Low man، أي الإنسان الوضيع بمعنى انتمائه الى طبقة وضيعة)... ومن هنا قوله لاحقاً إنه حين رسم ملامح الشخصية كان في ذهنه ان كل الناس يعرفون ويلي لومان. ولكن من هو لومان هذا، وماذا يفعل وما هي مأساته؟

إنه الشخصية المحورية في هذه المسرحية التي تتأرجح، أسلوباً، بين الماضي والحاضر، عبر فصول ومشاهد تعبيرية تدور في ذهن ويلي ومن حوله، ضمن اطار حياته العائلية الضيقة. انه بائع جوال في منتصف العمر، يطالعنا هنا في أول المسرحية وقد عاد متراجعاً من جولة بيع كان يريدها أن تكون الأخيرة، لكنه لم يكملها، بل رجع الى بيته مهزوماً. وعلى الفور ندرك انه كان من المؤمنين العنيدين بتلك الأسطورة الأميركية التي تقول ان «المظهر الحسن يمكنه أن يؤمن النجاح»، وهي الفلسفة التي كان ربى ولديه هابي وبيف عليها. غير اننا سرعان ما سنكتشف ان هابي بات شاباً عاجزاً لامبالياً. أما بيف فإنه هو الآخر يبدو غير قادر على ممارسة أية مهنة على الإطلاق. وهنا لكي ينسى لومان (والذي يروي لنا هذا كله) اخفاقات حاضره والفواتير غير المدفوعة وتشقق عائلته، ها هو يستعيد أمامنا بعض لحظات الماضي السعيد، أيام كان يشعر بأن ولديه معجبان به. غير ان الذكريات لا تدوم، وها نحن نعود مع ويلي الى الحاضر، حيث تحاول ليندا، زوجته، اقناع ابنها بيف بأن يسعى للحصول على بعض المال من مستخدم سابق له، بغية تمويل مشروع يبدو ان ويلي كان يحلم بتحقيقه. وكذلك ها هي ليندا تطلب من ويلي ان يطالب مستخدمه بأن يدبر له عملاً لا سفر أو ترحال فيه. بيد أن بيف يفشل في الحصول على المال المطلوب، فيما يُطرد ويلي الآن من عمله. لاحقاً في المطعم الذي يجتمع فيه ويلي مع ولديه قصد الاحتفال ببدايتهم الجديدة، لا يلبث الولدان أن يتركا المكان والوالد ليصطحبا صديقتيهما الى حفل في مكان آخر، فيما ويلي لا يكف عن الشرب حتى الثمالة. وهو هنا تحت تأثير هذا الشرب، يعود الى الماضي من جديد، ليتذكر اللحظة الانعطافية التي حدث فيها الشرخ في ايمان بيف بأبيه: كان ذلك في مشهد اكتشف بيف وجود أبيه في صحبة امرأة في أحد الفنادق. بعد هذا المشهد نعود الى الحاضر، وإلى البيت حيث يحاول بيف أن يتكلم مع أبيه، لكن الحوار سرعان ما يتوقف بين الاثنين فيما يشير بيف الى ان الوالد قد بنى حياته وحياة ولديه على قيم مزيفة. هنا، على سبيل التوبة، ولكي يقوم بفعل يعبر عن ارتباطه بعائلته، يقدم ويلي لومان على الانتحار آملاً بأن تساعد أموال التأمين على حياته، ولديه وزوجته على الانطلاق في حياة جديدة. وبعد ذلك، في حديثها عن زوجها وهي تبكي على قبره، تخبرنا ليندا ان رهن البيت قد دفع وأنها الآن أصبحت ووالدها «حرين وطليقين». وإذ يحاول بيف في حديث أخير أن يقنع أخاه هابي بالتوجه غرباً يرفض هابي ذلك قائلاً إنه يفضل البقاء لكي يثبت صحة نظرية والده في حلم النجاح.

كتب آرثر ميلر هذه المسرحية في العام 1949، بعد محاولات سبقتها وكانت أهمها «كل ابنائي» وعلى الفور اعتبرت هذه المسرحية من أعظم انجازات المسرح الأميركي الحديث وقدمت ولا تزال تقدم من أكبر المسارح ومن كبار المخرجين في العالم كله، كما ان السينما اقتبستها مرات عدة (آخرها من بطولة داستن هوفمان)... ومنذ بروز ذلك العمل، صار ميلر واحداً من أقطاب الثقافة الأميركية، على رغم قلة انتاجه المسرحي (أكثر قليلاً من دزينة من المسرحيات خلال ثلث قرن)، إضافة الى كتابته سيناريو آخر فيلم مثلته مارلين مونرو ومثله كلارك غايبل ومونتغمري كليفت («الجانحون» من اخراج جون هستون). وميلر الذي كتب مذكرات شيقة قبل سنوات قليلة من رحيله عام 2005 بعنوان «منحنيات الزمن» كان يعتبر وجهاً من وجوه الثقافة التقدمية في العالم، منذ وقف أواخر الأربعينات في وجه الماكارثية.

بقلم: إبراهيم العريس



شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق