الرأسمالية الطاغية: التحولات فى قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية - روبرت رايش


حول الكتاب

تنبع أهمية هذا الكتاب الذى يتناول طغيان الرأسمالية وتوحشها فى عالم السياسة واجتياحها للديمقراطية فى الولايات المتحدة والعالم، من نقطتين اساسيتين، اولاهما صورة الترجمة الخاصة به فى بداية العام الحالى الذى شهد ثورة 25 يناير وما تضمنته من رفض لاجتياح رأس المال لعالم السياسة والسلطة فى مصر وما نجم عنه من تقزيم وتهميش للديمقراطية ودور المواطن فى الحياة السياسية.

بل ان عملية الرصد لهذا الاجتياح ومحاولات تجميل دور الرأسمالية من خلال صياغات المسئولية الاجتماعية للشركات، وما ارتبط بها من تساؤلات طرحها الكاتب روبرت ـ ب ـ رايش. فى كتابه متتبعا للتحولات التى شهدها قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية. اقرب ما تكون للواقع الذى عايشناه لثلاثة عقود. وما كشفت عنه تطورات مابعد ثورة 25 يناير من توحش وليس مجرد طغيان رأس المال على حساب الديمقراطية.

اما النقطة الثانية: فتنبع من شخصية الكاتب ذاته، فهو مفكر اقتصادى ورجل سياسة فى آن واحد، حيث عمل روبرت ب ـ رايش فى ثلاث حكومات امريكية إبتداء من الرئيس «فورد» الى «كلنتون» مرورا بكارتر، وكان لتوليه منصب وزير العمل فى حكومة بيل كلينتون، مع خلفيته كمفكر اقتصادى تخصص فى مجالات السياسة العامة والسياسة الاجتماعية والاقتصادية فى العديد من الجامعات الامريكية وعلى رأسها جامعة «هارفارد» واثرهما فى تصدر كتبه قائمة الكتب الاقتصادية الاكثر مبيعا، ومنها الكتاب الذى نعرضه «الرأسمالية الطاغية»، كتاب «بعد الصدمة ـ الاقتصاد التالى ومستقبل امريكا»، فهو ليس بسارد لتطورات الاوضاع ولكنه محلل ومفكر، يخلص الى قناعات وآراء قد تبدو فى غير اتجاه الريح على الساحة الاقتصادية الأمريكية وخاصة فى ظل سيطرة من أطلق عليهم اسم «المحافظين الراديكاليين». ومن هنا كانت خلافاته الفكرية التى صاغتها فى كتاباته مع وزراء المالية الامريكيين، سواء خلال حكم «بيل كلينتون» وحتى حكم «أوباما» انطلاقا من قناعته بان المسار الطاغى للرأسمالية ادى الى تقليص دور الطبقة الوسطي. وكانت نتيجته التلقائية ممثلة فى التحديات التى واجهها الاقتصاد الأمريكى بعد الازمة المالية الاخيرة، وهى تحديات تواجه أى دولة طالما اطلقت العنان للرأسمالية، وحرصها على المستثمر والمستهلك «الفرد» على حساب «المواطن»، وهى ما صاغه فى كلمات معبرة «لقد ازداد التوجه نحو الرأسمالية وأصبحت اكثر تجاوبا مع ما نريده «كمشتريين» افراد و«كمستثمرين»، ولكن اصبحت الديمقراطية اقل تجاوبا مع ما ننشده مجتمعين كمواطنين. إذا كان دور النظام الرأسمالى هو توسيع وتكبير الكعكة الاقتصادية، فان تقسيم الشرائح متروك تقريرها للمجتمع وهو الدور الذى نسنده للديمقراطية، حيث ان الاخيرة تعنى ماهو اكثر من مجرد انتخابات حرة نزيهة، فهى نظام لانجاز مالا يمكن تحقيقه إلا من خلال تعاون وتكاتف المواطنين مع مواطنين آخريين ـ لتقرير قواعد اللعبة التى تعكس نتائجها الصالح العام».

الرأسمالية والديمقراطية. مأزق التباعد.

تلك هى الوقائع التى رصدها الكاتب والمفكر الاقتصادى روبرت ب ـ رايش فى كتابه الذى ترجمته علا أحمد إصلاح، ولخصها فى تساؤله «لماذا اصبحت الرأسمالية منتصرة والديمقراطية ضعيفة الى هذا الحد؟ هل هذان الاتجاهات متصلان ببعضهما؟ وما الذى يمكن القيام به لتقوية الديمقراطية وتدعيمها؟

وقد جاءت محاولة الكاتب الاجابة على هذا التساؤل والخروج من مأزق «التباعد» الى حل «التواصل» بين الجانبين، لتكون بمثابة ضوء كاشف لما شهده العالم على مدى عدة عقود، إبتداء من الولايات المتحدة ذاتها، من اجتياح الراسمالية للديمقراطية وترجمة استطلاع للرأى العام، اشار فيه نسبة تزيد على 60% من المواطنين الامريكيين، الى اعتقادهم بان الحكومة تدار بواسطة قلة من المصالح الكبرى (عام 2000) بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز 39% فى عام (1964).

فالكاتب يرى ان الفجوة بين الأفراد «كمواطنين» وبصفتهم «مستهلكين مستثمرين» تضيق وتتسع من مكان لآخر فى عالم العولمة والانترنت والمدونات، فهناك جماعات وهيئات لحماية المستهلك. وجماعات آخرى ضاغطة وفعالة لتسهيل مناخ الاستثمار وتدعمها مؤشرات دولية، ولكن الديمقراطية الحقيقية ـ وليس مجرد الالفاظ المطلقة ـ هى القضية الاساسية للمواطن ابتداء من شرق أوروبا الى امريكا اللاتينية مرورا بآسيا وافريقيا.

إنه يرى أيضا أن تلك الأنظمة ديمقراطية بالاسم فقط ويثقل كاهلها نفس المشكلات التى عوقت الديمقراطية الامريكية فى السنوات الاخيرة، ولكن بدرجة أكبر فحسب، فهناك الفساد المستوطن والهيمنة السياسية من جانب النخب الصغيرة أو حكم الحزب الواحد، وكل هذه الأوجه لا يستطيع أى منها ان يصمد بفاعلية فى وجه الآثار الجانبية السلبية للرأسمالية الطاغية التى أفرزتها سنوات السبعينات، وفرضت حتمية الدراسة التفصيلية للهيكل المتغير للاقتصاد السياسى فى الولايات المتحدة باعتبارها المصدر الرئيسى لهذه المتغيرات وادت الى التغيرات المماثلة فى بلدان أخرى.

الطبقة المتوسطة. رحلة الصعود والانكسار:

فاذا كانت الرأسمالية شرطا اساسيا مسبقاً للديمقراطية، طبقا «لميتون فريدمان» فان امريكا لايعتقد الكاتب ـ انها خير مثال لفكرة ان الرأسمالية والديمقراطية تشيران جنباً الى جنب، لقد اصبحت العلاقة بينهما أكثر توترا. حيث انتصرت رأسمالية السوق الحرة بينما ضعفت الديمقراطية، فلماذا؟

الاجابة عن هذا التساؤل تضمنها الفصول الستة للكتاب والتى من خلالها «روبرت. ب. رايسن» رصد عملية النمو للحصر الذهبى للرأسمالية الامريكية وتحليل الشوائب التى قللت من بريقه واكتمال صوره فى الفصل الأول. ثم توالت التطورات المتلاحقة الناجمة عن الاتجاه المتنامى للرأسمالية الطاغية وما أفرزته من عقلية مزدوجة فى التعامل مع مطالب «المستهلكين والمستثمرين» من جانب وعدم القدره على تجميع قيم «المواطن» من جانب آخر وذلك فى الفصلين الثانى والثالث. ومع تصاعد تلك التطورات. كانت النتيجة السلبية الحتمية ألا وهى اجتياح الديمقراطية تم تحويل مسار السياسة ذلك فى الفصلين الرابع والخامس. أما الفصل السادس فقد انصب على تحديد كيفية مواجهة المطالب الاجتماعية للرأسمالية الطاغية وفك عقدة الارتباط بين السياسة وجماعات الضغط، أو ما أطلق عليه الكاتب اسم «مناورى الأروقة» داخل المجالس التشريعية واللجان والادارات والاجهزة الحكومية إضافة إلى اموال الشركات التى تتدفق الى النظام بصورة يومية.

ويرى الكاتب أنه على الرغم من نمو العصر الذهبى للرأسمالية الأمريكية والذى شابه العديد من الانتقادات التى أفقدته صفة التميز المطلق وجعلت الشوائب المدنية تقلل من ممثلة فى حقوق المرأة والاقليات ونضالهم من اجل المساواة. بالاضافة الى تهديد الحريات المدنية من جانب حملات السيناتور جون مكارثى الا أن الرأسمالية الديمقراطية التى سادت على مدى الفترة من 1945 ـ 1975، تحت التجربة الامريكية حظيت بالاعجاب والاستحسان على نطاق واسع. فقد شهدت هذه الفترة مجموعة من المفاوضات المتواصلة بن اللاعبين الرئيسيين بصورة مباشرة مثل منشآت الأعمال الكبيرة والتنظيمات العمالية الكبيرة واحيانا أخرى بصورة غير مباشرة ضمن الوكلات التنظيمية والمجالس التشريعية وكانت المحصلة النهائية ظهور طبقة متوسطة كبيرة ومتنامية عبر الولايات المتحدة ساهمت فى تحقيق الاستقرار للنظام السياسى وكانت نتيجة لأداء أنظمة أقتصادية كبيرة الحجم ذات أنتاجية وربحية مرتفعة، واستقرار فى الوظائف وتوسع فى توزيع الأرباح، ومن ثم كانت الدائرة كاملة بين الأداء الرأسمالى والممارسة الديمقراطية.

أما الرأسمالية الطاغية منذ بدأ الطريق اليها عبر التكنولوجيات التى أفرزتها حيث حطمت نظام الانتاج الكبير القديم وزادت من المنافسة بصورة حادة فى اطار من العولمة فى الاستثمار والتنافس على تجميع القوة الشرائية للمستهلك، وذلك على حساب العمالة والمرتبات والاجور.

وكانت النتيجة الطبيعية تعاظم التكتلات التى تقوم بتجميع مطالب المستهلكين والمستثمرين بينما تراجعت المؤسسات التى دأبت على تجميع قيم »المواطن« فى ظل المفاوضات بين الاحتكارات الكبيرة والنقابات العمالية التى يغطى نشاطها صناعات بأكملها فى الاقتصاد السياسى الاوسع.

مناورات الاروقة فى عالم السياسة:

ثم كان اجتياح «الديمقراطية» من خلال تغلغل المال فى عالم السياسة وكيف أن المواطن اصبح بين شقى الرحي. مابين المؤسسات الكبرى التى حجبت وهمشت اصوات المواطنين لصالح المستهلكين والمستثمرين وكذلك دور هذه المؤسسات فى تصعيد المنافسة على تحقيق نتائج سياسية تمنحها ميزة عن منافسيها من خلال مناورات «الأروقة» والتى تعادل جماعات الضغط داخل المجالس التشريعية والاجهزة الحكومية بالاضافة الى أموال الشركات التى تتدفق لتمويل الانتخابات وإذا كان الكاتب يرصد ويحلل الوضع فى العاصمة الامريكية «واشنطن» فانه لايبدو، بمعزل أو منفصل عما يحدث فى العديد من العواصم الاخرى فهناك حرية أمام «المستهلك» فى اتخاذ قرار الشراء من عدمه، او التحول من منتج لآخر. وكذلك بالنسبة للمستثمر «الفرد» حامل الاسهم والصكوك. فهو يملك حرية البيع والشراء. أما بالنسبة لأصوات المواطنين فيكاد السياسيون لايسمعونهم بسبب تنافر نغماتهم، بل أن هذا المواطن فى طريقه لفقد الثقة فى ان ما يجب أن نقوله كمواطنين ذو أهمية ـ طبقا لرؤية «روبرت رايش» وذلك نتيجة تدفق الرأسمالية الى الحقل السياسى واحتياجها للديمقراطية فى الولايات المتحدة ومنها الى اعديد من دول العالم. لقد اصبح صوت ضجيج الشركات الكبرى ورأس المال اعلى من صوت المواطن تحول دون سماعه. فهناك حلقة مفرغة، تتمثل فى ان المسئولين المنتخبين يدينون بالفضل للشركات الكبرى التى تكدس الأموال لصالح حملاتهم الانتخابية، وعندما يتربع هؤلاء على مقاعد السلطة ايا كانت نوعيتها، يقومون بنهب المزيد من المساهمات المالية من هذه الشركات عبر وسطائهم (مناورى الأروقة) بدافع الخوف من ان يحصل المنافسون فى دوائرهم على الاموال بدلا منهم، ومقابل ذلك تصور التشريعات وتتصاعد حمى الدعوات القضائية من جانب الشركات التى اصبحت تعامل "كبشر"، بينما المواطن البشر لم يجد سوى المدونات للتنفيس عن الاحباطات والتى تفتقر الى صلة مباشرة مع صانع القرار!

ويؤكد الكاتب، أن المؤسسات الاقتصادية الحالية اقل قوة عما كانت عليه منذ ثلاثة عقود مضت، لكنها اصبحت تتنافس بصورة اشد شراسة واقوى عما مضى نظرا لتزايد اعدادها وبالتالى تناقص قواتها السوقية.

وعلى النقيض من الأفكار السائدة التى تربط بين الرأسمالية الطاغية وكل من رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. او القادة المحافظين. يؤكد الكاتب ان الادارة الديمقراطية للرئيس بيل كلينتون. شهدت الطفرة الحادة فى عدد مناورى الاروقة «الممثلين للشركات الكبرى فى العاصمة الامريكية»، كما ان التغيرات الاقتصادية فرضت بدايتها قبل وصول ريجان للحكم. وحتى بالنسبة للنظريات التى تشير الى «الليبرالية الجديدة» او الاقتصاد الكلاسيكى الجديد. او «المذهب المحافظ الجديد» او «الاجماع» 
«الواشنطوني» واثرها فى طغيان الراسمالية الامريكية يرى الكاتب ان هذه الافكار موجودة منذ تنبأ بها «آدم سميث» فى القرن الثامن عشر، ولم تحدث تحولا بل أضفت عليه صبغة شرعية على الاكثر. حيث ركزت على الاسوا اكثر من الاعتماد على الحكومة واهتمت بالكفاءة اكثر من العدالة.

وإذا كان الوضع كذلك. فكيف يكون المخرج؟

الاجابة من وجهة نظر «روبرت. ب. رايش» تتمثل فى وضع قواعد جديدة للعبة، اكثر عدالة ونزاهة تعكس قيم «المواطن» وايضا قيمته كمستهلك ومستثمر، وحيث ان الرأسمالية الديمقراطية الامريكية التى سادت الخمسينات والستينات لن تعود، فانه يمكن تشكيل المستقبل بطريقة تخدم اهداف ومصالح المواطنين ـ إن تفهم الحد الفاصل المناسب بين الرأسمالية والديمقراطية، وبين اللعبة الاقتصادية وكيف يتم وضع قواعدها لكى يتسنى الدفاع عنها بصورة افضل. فالتحدى الاساسى الذى يواجهنا كمواطنين. من وجهة نظر الكاتب: هو منع الشركات من ان تضع هى القواعد والحيلولة دون امتداد وتغلغل الرأسمالية الطاغية الى داخل الديمقراطية، وهى أجندة التغيير البناءة فى وجه الآثار السلبية للرأسمالية الطاغية.

مابعد الصدمة. الاقتصاد التالى ومستقبل أمريكا 

إمتدادا لوجهة النظر والرؤية التحليلية الخاصة بروبرت «ب. رايش» جاء كتابه فى تحليل الازمة المالية الاخيرة. والذى يعد كتابه عن الرأسمالية الطاغية، بمثابة الجذور الاساسية به. فقد ركز على اختلافه مع وجهة نظر وزير الخزانة الامريكى «تيموثى جينتر» فى ان الازمة المالية ناجمة عن توسع الامريكيون فى الانفاق بينما تتضاءل قدرتهم على الادخار: حيث يرى «روبرت رايش» ان السبب الاساس هو ركود الطبقة المتوسطة من حيث مستويات الدخول وانفجار فجوة عدم المساواة فى المجتمع الامريكي، واوضح ان المشكلة الرئيسية لم تكن فى أداء شارع المال «وول ستريت» ولكن فى تركز الثروة فى ايدى حفنة قليلة من الاغنياء حيث يستحوذ 1% من اغنى اغنياء الولايات المتحدة على نسبة 25% من اجمالى الدخل القومي، بينما الطبقة المتوسطة تواجه بارتفاع تكاليف المعيشة مع ثبات اجورها. مما ادى الى افراطها فى المديونية.

وهذا يقتضى ضرورة التزام الدولة الامريكية بالعدالة والمساواة فى الفرص وان تتضمن خطة المستقبل للعقود القادمة، مزيدا من الممارسة الانسانية فى أداء النظام الاقتصادى الامريكي. فتنافسية الدولة. تعتمد على التعليم ومهارات أفراد شعبها والبنية الاساسية التى تربطهم ببعض.

وهو ذات الخط الذى انتهجه الكاتب فى سلسلة كتبه، وركز فيه على ان «الأفراد» هم رأس المال البشرى للدولة، ويشكلون المصدر الذى يعتمد عليه فى قياس مستوى المعيشة المستقبلى لها وليس ربحية الشركات ومراكزها الرئيسية من خلال أرقام رؤوس اموالها، ومن ثم فإن الاستثمار العام هو حجر الاساس فى السياسة الاقتصادية. 

رابط التحميل

شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق