راسبوتين .. قصة الفلاح الراهب الذي عجل بقدوم الشيوعية في روسيا


فلاح قروي بسيط تحول إلى راهب فريد من نوعه، يشفي المرضى بطرق غريبة ويسحر قلوب الناس بفصاحة كلامه، وبفضل موهبته وذكائه الفذ ورهبنته الغريبة أضحى الآمر الناهي في قصر القيصر بسانت بطرسبرغ، رجل لا يزال حتى الآن محط جدل ونقاش بين المؤرخين وغيرهم، إذ أن قصته لا تخلو من الغموض والغرابة وفي نفس الوقت الرهبة.
يقول البعض إن راسبوتين كان سببا في الانهيار المريع للعائلة الملكية بروسيا، ومن ثم قدوم الشيوعية على أنقاضها، فما إذن قصة هذا الرجل الغريب الذي حل بمدينة بطرسبرغ ضيفا فتحول حديث الناس بها إلى حكايات وغرائب بطلها راسبوتين.

طفولة مجنونة

في قرية ريفية صغيرة بسيبيريا في الجزء الشرقي لروسيا، هناك ولد غريغوري يافيموفيتش راسبوتين في 22 يناير 1869، وحل نحسا على أهله، فتوالت المصائب والأحزان حتى لم يبقَ في المزرعة الصغيرة سوى راسبوتين وأبيه، حيث مات أخوه بعد أن أصيب بالتهاب رئوي، وبينما أخته كانت تغسل الثياب سقطت في النهر فلفظت روحها غرقا، وأما والدته فتوفيت حرقا بعدما التهمت النيران منزلهم.

أرسله والده إلى دير قرية فيرخوتوري ليصبح راهبًا، فأخذ هناك دروسا في اللاهوت والفلك وطب الأعشاب.
ورغم تشبع راسبوتين بالرهبنة، إلا أن هذا لم يمنعه من الخوض مبكرا في المغامرات الجنسية الفاضحة، حيث يجتمع مع أقرانه، وممارسة طقوس حافلة بممارسات السحر والجنس، يقال إنه انتمى منذ مراهقته لجماعة خليستي، وهي طائفة دينية مسيحية ظهرت في القرن 17م، تؤمن بمعتقد غريب، مفاده أنه إذا أراد العبد إرضاء الرب عليه الانغماس تماما في المجون والخطايا، حتى يمكنه أن يتوب ويسعد ربه.
تزوج بروسكوفا وأنجب منها ثلاثة أطفال وحصل على ولد آخر من امرأة أخرى.
و مع بداية 1896 شرع راسبوتين في رحلة طويلة مر فيها بالعديد من المناطق داخل البلاد وخارجها، حيث كان يظهر في هيئته كقديس يثير إعجاب كل من قابله بذكائه الفريد ورهبنته السحرية، أما عيناه الواسعتان الخضراوان فتثير الرعب في كل من رآها.

وصوله قصر القيصر

بحلول عام 1905 وصل راسبوتين سان بطرسبرغ، والتقى فيها بعالم لاهوت يعمل رئيسا لأكاديمية دينية وكاهنا مشهورا لدى الملكة ألكسندرا فيودوريخا، استحسنه وزكاه ليكون من بين القديسين في القصر، الذين يستنجد بهم القيصر لحل مشكلاته الصعبة.
كان نيكولا القيصر الروسي وزوجته ألكسندرا قد أنجبا أربع بنات، وصبي اسمه أليكسي وهو ولي العهد، وكان ولد الإمبراطور مصابا بداء “الناعور”، مرض يمنع تخثر الدم حتى في أبسط الجروح، فيتعرض المصاب به لنزيف مستمر حتى الموت. ورغم العناية التي كانت تحيط بولي العهد من قبل الخادمات حتى لا يصاب بأي جرح، إلا أن نزيفا باغته في إحدى الأيام، فاستعان الزوجان الملكيان بالعديد من الأطباء والمشعوذين لوقف نزيف ابنهم، لكن دون جدوى، وكان قبلها قد مات عدد من الأسرة الملكية بفعل نفس المرض.

استنجد بلاط الإمبراطور براسبوتين الذي بدأت شهرته تذيع، فاستطاع فعلا الراهب الغامض منع النزيف ببضعة أعشاب مغلية قدمها للولد، فانتشر خبر شفاء ولي العهد على يد راسبوتين بين العامة والخاصة، ما أضفى لقداسته رهبة ومقدرة عجيبة على الشفاء.
أصبح بعدها المستشار الشخصي للإمبراطورة ألكسندرا، وأقام في بلاط القصر. وخلال بضع سنوات فقط من إقامته تمتع راسبوتين بنفوذ واسع في البلاط، بعد أن تمكن من إزاحة منافسيه واستغلال قدراته ومكره للتقرب من الملكين.

قدراته الغريبة

تكتسب شخصية راسبوتين غموضها انطلاقا من القدرات العجيبة التي تملكها كما تردد الروايات.
يروج راسبوتين أنه كان شهوانيا إلى حد بعيد، يعشق النساء والخمور، فتحكي أساطيره أن لديه قدرة غريبة في إغواء النساء بما فيهم زوجات كبار البلاط.
و يعزو بعض المؤرخين اكتسابه الحظوة في البلاط إلى مساعدة عشيقاته من زوجات كبار رجال الإمبراطورية.

كان راسبوتين أيضا يتقن التنويم الإيحائي مستخدما صوته فقط، وكان يفعل هذا الأمر فعله وسط العامة، الذين يمجدونه لدرجة قديس ذو قدرات خارقة، ويقال إن راسبوتين استطاع وقف نزيف ولي العهد بفضل التنويم لا بفضل الأعشاب.
شفاء ولي العهد على يد راسبوتين، لم تكن المرة الوحيدة التي يستطيع من خلالها الراهب علاج مرضى كثر، فيحكى عنه أنه عالج علات كثيرة لأشخاص بوضع يده على مكان الألم، ما أكسبه عددا كبيرا من المريدين والمتوددين.
عرف عن راسبوتين أيضا قدرته العجيبة على التعرف على السارقين ومدبري الشر، ربما كانت هذه الميزة حافظت على حياته بالرغم من العديد من المؤامرات التي حيكت ضده من داخل البلاط لإبعاده عن الإمبراطور.

نهايته الأخيرة

في نونبر 1916، ألقى العضو في ألدوما، فلاديمير بوريشكينيس، خطابا هاجم فيه راسبوتين وألكسندرا، قال فيه: «إن وزراء الدولة تحولوا إلى دمى متحركة يمسك خيوطها بقوة راسبوتين وألكسندرا، العبقرية الروسية الشريرة والإمبراطورة التي بقيت ألمانية وغريبة على روسيا وشعبها…»، ألهم الخطاب الأمير فيليكس، زوج ايرينا ابنة أخ القيصر، فاتصل بفلاديمير وطلب منه التعاون على التخلص من راسبوتين، ثم انضم إليهما الدوق ديمتري بافلوبينس، ابن عم القيصر.
خطط الأربعة لقتل راسبوتين بالسم مستغلين ولعه بالنساء كطعم لإيقاعه في المصيدة.

يدخل فيليكس وراسبوتين قاعة الطعام الدافئة والمريحة في قبو القصر. ثم يدعوه فيليكس إلى الفطائر الحلوة المحملة بسم سانيد البوتاسيوم القوي، لكن راسبوتين يعتذر لأنه يتجنب الحلويات بسبب السكري، ثم يعود فيليكس لأصحابه الثلاثة المختبئين في غرفة مجاورة بالبيت وهو متذمر من فشل الخطة، فيعود فيجد راسبوتين يلتهم الأكل المسمم، لينشرح صدره، فبدأ يحدثه عن الغانيات الساحرات محاولا إرضاءه ومنتظرا سقوطه نتيجة مفعول السم، لكن لا شيء من ذلك قد حدث.
يفقد فيليكس صوابه فينصرف مرة أخرى ليعود حاملا مسدسا، ثم يطلق النار على راسبوتين، فيسقط الأخير أرضا متشنجا، فيركض الرفاق إليه فرحا متأكدين من موته المحقق، فإذا براسبوتين يطبق بقبضته الفولاذية على رقبة أحدهم وينتصب واقفًا، فيركض هاربا، ليطلق عليه فيليكس ثلاث رصاصات أخرى عجلت نهايته، بعد أن نجا من العديد من محاولات الاغتيال.
تحفل قصة راسبوتين بالعديد من الإشاعات والتناقضات بين روايات المؤرخين والباحثين والصحفيين، غير أنهم يتفقون جميعا على تأثيره في الإمبرطورية الروسية وتعجيل قدوم الشيوعية، إذ بعد موته بفترة قصيرة ستنهار المملكة بعد انتشار الفوضى والغضب وسط الفلاحين نتيجة مقتله، وهو الفلاح البسيط الذي استطاع التوغل في بلاط القيصر وأصبحت قراراته هي من تحدد السياسات داخل روسيا وخارجها.
لا زالت هذه الشخصية لحد الساعة تلهم الفنانين والكتاب والروائيين في إنتاج أعمالهم، نظرا للجانب الغامض الذي يكتنفها، نذكر من بين ذلك أوبرا “راسبوتين” للموسيقار الفلندي أنغوهاني بيتافارا سنة 2003. ورواية “راسبوتين” لجيسون هول سنة 2013، وأيضا مسلسل «غريغوري راسبوتين»، من إخراج أندريه ماليكوف، الذي بدأ عرضه في 27 أكتوبر 2014 على تلفزيون روسيا.
شاركها في جوجل+

عن غير معرف

0 التعليقات:

إرسال تعليق