الفيلسوف الألماني فريريك نيتشه ساهم بتحويل الفكر الأوروبي من ميتافيزيقا العقل عند هيغل إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع.
كثيرا ما تمّ الربط بين فلسفة نيتشه والأيديولوجيا النازية، حتى قيل: “لقد أنجبت فلسفة نيتشه شخصيّة هتلر، مثلما أنجبت فلسفة مكيافيلي شخصيّة موسوليني”، والحقيقة إنّ فلسفة نيتشه تركت بصماتها على عدة تيارات فكرية في القرن العشرين، منها الوجودية والعدمية، وكان لها تأثير واضح في علم النفس والدراسات اللسانية، وهي فلسفة تبلغ درجة من الاتساع والعمق والتشعّب، بشكل لا يمكن فيه ربطها بأيديولوجيا واحدة.
لقد تعرّضت فلسفة نيتشه لسوء الفهم عند الغرب والشرق، فمعظم الأشخاص قرؤوا عن نيتشه، لكنّهم لم يقرؤوا نيتشه، بالإضافة إلى صعوبة أسلوبه اللغوي، وصعوبة ترجمته إلى لغات أخرى، نظرا لموهبته الشعرية وخبرته اللغوية وعباراته القاطعة كالسكاكين.
بعد وفاة فريدريك نيتشه عام 1900، أصبح أرشيفه الكامل تحت سيطرة شقيقته الكبرى إليزابيث، وأشرفت إليزابيث وحدها على نشر مخطوطاته ورسائله، فمنعت صديقه الأقرب بيتر غاست (Peter Gast) من تحرير عدة مخطوطات من الأرشيف ونشرها، قائلة له: “إنني أحتفظ برسائله ومخطوطاته، لأشعر أنني كنت دائما قريبة من أخي وكتاباته”.
وكانت إليزابيث معروفة بتعصّبها للقومية الألمانية، ومعاداتها للساميّة، فنشرت ما يتوافق مع انتمائها الفكري، وما يعزّز النزعة الإمبراطورية المتصاعدة عند الشعب الألماني، وقبل وفاتها بقليل، وتحديدا عام 1935، أثنت إليزابيث على هتلر، شاكرة الشرف العظيم الذي أعطاه لأخيها، قائلة: “ليس لديّ أدنى شكّ، بأنّ الفوهرر هو السوبرمان الذي تنبّأ به زرادشت”.
ربما من سخرية القدر، أنّ مواقف نيتشه الكارهة للعنصرية ولمعاداة السامية، تمّ إخفاؤها بشكل ناجح من قبل أكبر المناصرين لفكره، أي النازيّين، حتى أنّ محاكم نورنبرغ العسكرية عام 1946، التي حوكمَ فيها كبار الضبّاط النازيين كمجرمي حرب، اعتبرت نيتشه العقل المفكّر وراء الأيديولوجيا النازية.
فالسياسيّون - كما لاحظ نيتشه- يهتمّون بالمصالح النفعية أكثر من اهتمامهم بالحقيقة، وهذا ما أكّده هتلر في كتابه “كفاحي”، حين قال: «الشيء الأهمّ، ليس ما يقصده خالق الفكرة العظيمة، بل كيف ستصبح هذه الفكرة على لسان من يذيعها».
يبدو أن نيتشه كان يتوقع أن تتعرّض أفكاره لسوء الفهم، فهو كان يكتب لإنسان المستقبل، لا للإنسان في عصره، فقد ذكر في إحدى رسائله إلى إليزابيث عام 1884: «إنني أرتجف عندما أفكّر في كل هؤلاء، أعني الأشخاص غير الجاهزين بعدُ لتلقّي أفكاري، ومع ذلك سوف يستغلّونها كسلطة».
فالسياسيّون - كما لاحظ نيتشه- يهتمّون بالمصالح النفعية أكثر من اهتمامهم بالحقيقة، وهذا ما أكّده هتلر في كتابه “كفاحي”، حين قال: «الشيء الأهمّ، ليس ما يقصده خالق الفكرة العظيمة، بل كيف ستصبح هذه الفكرة على لسان من يذيعها».
نيتشه واليهود
بعيدا عن تعقيدات فلسفة نيتشه، وعن تعقيدات الأيديولوجيا النازية، يمكن اعتبار المسألة العنصرية أسهلَ طريقة للتفريق بين نيتشه وهتلر، وهنا نقارن بين إحدى رسائل نيتشه إلى إليزابيث بتاريخ 26 -12 -1887، وموقف هتلر الواضح في كتابه “كفاحي”، حيث يقول: «حزبـنا يقوم على تصوّر عرقي للعالم -وهذا هو الجزء الأساسي من عقيدته- إننا نعمل من أجل الانتصار النهائي للتفوق العرقي». بينما يقول نيتشه في رسالته: «أصبحت في الأيام الأخيرة، خائفا من كثرة الرسائل والأطروحات التي تصلني حول معاداة السامية، إنّ اشمئزازي من هذا الحزب هو بكلّ ما تعنيه كلمة اشمئزاز، وبكل ما تحمله من صور».
ربما كان نيتشه من الكتّاب القلائل الذين لم يعيروا احتراما لبلادهم أو شعبهم، فهو لم يشعر بأيّ ارتباط عرقي مع الشعب الألماني، يقول في رسالةٍ بتاريخ 12 -5 -1887: «أحسّ بقرابة النسب مع النبلاء الفرنسيين والروس، ولا أحسّ بقرابة النسب أبدا مع الذين يسمّون أنفسهم النخبة المميّزة من أبناء بلدي، الذين يحاكمون كلّ شيء من مبدإ: ألمانيا فوق الجميع».
ومن غرائب مواقف نيتشه، تصريحاته الهجائية ضد الشعب الألماني، مع أنه شعب لا يختلف اثنان على عظمته وإسهاماته الكبيرة في كافة العلوم، فيقول: «حيثما تتوسّع ألمانيا بنفوذها وتأثيرها، فإنها تدمّر الثقافة»، ويقول أيضا: «آخر أربعة قرون، كل جريمة كبرى بحقّ الثقافة، تقع مسؤوليتها على الضمير الألماني”، وأخيرا: «في ألمانيا، الكتابات الرديئة يُنظر إليها كرمز وطني».
أما بالنسبة إلى موقفه من اليهود، فقد عاش نيتشه في عصر بلغت فيه معاداة السامية ذروتها، ومع ذلك فإنّ أقرب أصدقائه كانوا من اليهود، ومنهم: بول ريه، بيتر غاست، لو سالومي، سيغموند فرويد، هاينرش هاينه. ويقول نيتشه: «كنت دائما أجد اليهود مثيرين للاهتمام أكثر من الألمان»، ويضيف: «اليهود مع هاينرش هاينه وجاك أوفنباخ، بلغوا قمّة العبقرية في فضاء الفنّ».
رؤية فكرية
لقد ساهم نيتشه بتحويل الفكر الأوروبي من ميتافيزيقا العقل عند هيغل، إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع، ونادى بمبدإ السموّ الإنساني، واضعا العلوّ والتفوّق والتجاوز قيمة عليا لكل القيم، ومبشّرا بالإنسان الأعلى المتفوق. لكن ماذا يقصد نيتشه بالإنسان الأعلى؟ هل هو الإنسان الدارويني؟ أم هو الوحش النازي الأشقر؟
لا أعتقد أنّ الإنسان الأعلى هو الإنسان التطوّري بالمفهوم الدارويني، لأن نيتشه يُحـلّ “النزاع من أجل القوة” محلّ “النزاع من أجل الوجود” عند داروين، ويرى إمكانية تطوّر الإنسان إلى إنسان أعلى أخلاقيا، وفقَ مفهومه لأخلاق القوّة والنبلاء، وهنا يبتعد عن التطوّر البيولوجي عند داروين، ويقترب من التطوّر السيكولوجي للإنسان، ولو أنّ كلا التطوّرين يؤثران في الآخر.
الإنسان الأصيل -عند نيتشه- هو الإنسان المغامر الباحث عن الخطر، والإنسان الأعلى لا يحبّ الهدوء والمسالمة والتسامح، فالأرواح الحرّة تخاطر بحياتها، وتحكمها غريزة البطولة وحبّ الظفر.
ولا ينطبق الإنسان الأعلى عند نيتشه، على صورة الوحش الأشقر عند الأيديولوجيا النازية، فالإنسان الأعلى يحكمه قانون أخلاقي ثابت هو السموّ، بينما الأيديولوجيا السياسيّة تحكمها المصالح الآنية والنفعيّة، وهذه المصالح تنتهي بتحقيق أهدافها، وتتغيّر بين فترة وأخرى. فالسياسة بطبيعتها البراغماتية بعيدة عن السموّ كقانون أخلاقي للإنسان الأعلى.
الإنسان الأعلى يبدأ بالانتصار على ذاته، لا على الآخرين والشعوب الأخرى، والحرب التي نادى بها نيتشه، هي حرب العقل ضدّ أخلاق العصر ومعتقداته. لقد أراد نيتشه لإرادة القوة أن تحلّ محلّ الأخلاق المسيحية (التضحية، التسامح، المسالمة..)، وهي إرادة لا تهدف إلى تدمير الآخر وجوديا (أنطولوجيا) ولا معرفيا (إبستمولوجيا)، بل تدفع الإنسان إلى تدمير موروثه العقلي والنفسي والاجتماعي، لينطلق من بعد ذلك في سلّم السموّ الأخلاقي، معتمدا على إرادة القوة، كإرادة للحياة النبيلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق